عندما نقف أمام تكنولوجيا العصر الحديث، سوف نجد أنفسنا أمام بستان البساتين وأن أساس التكنولوجيا قد اعتمد على سحر الكيمياء الخالدة. لن تهتز الحياة أمام أى شئ، ولن تتقدم أو تتأخر الا بقدر ما فهمنا من سحر الكيمياء. سحر كيميائى خطف الأبصار وهز القلوب وتراقصت مع أنغامه الوجدان، فكانت سعادة الوجود والاستمتاع بكل ماهو جميل. سحر قديم تمثل فى تحويل المعادن البخسة إلى ذهب وفضة، واكتشاف الإكسير الذي يعيد الصحة والشباب إلى الإنسان. وسحر آخر حديث بلغ عنان السماء ولمع نجمه فى كافة صور التكنولوجيا الصارخة التأثير فى الانسان والحيوان بل وكل المكونات غير الحية.
بستان الكيمياء قديما
على جدران المدخل الرئيسى للبستان الكيميائى الرائع وجدنا بعض النقوش التى سردت لنا نبذه مختصرة عن تاريخ هذا البستان الذائع الصيت الساحر الجمال صاحب الزهور الخلابه. وبتدقيق البصر فى هذه النقوش المعبرة وجدنا أن هذا البستان كان فى العصور الوسطى يتكتم بل ويحرم إذاعة أو الإفضاء بأى سر من أسراره لغير أهله، مؤدى ذلك أن هذا البستان ضم بين جدرانه معارف غلفت بالغموض والكتمان. ومن ثم فقد حرص الكيميائيون القدامى على كتمان سر صنعتهم وتعمدوا الغموض والإرباك فيما تضمنته بل وعرضها فى صورة ألغاز لايقوى على فك طلاسمها غيرهم. وفى هذا الصدد قد جاء لنا ” حاجى خليفة” بصيغة وصية كيميائي لتلميذه يؤكد عليه فيها بكتمان أسرار هذه الصنعة ويحذره من إذاعتة هذه الأسرار لأن في إذاعتها خرابًا للعالم، وصية ان أمعنت النظر فيها سوف تجدها قد أدركت كبد الحقيقة فى كثير من الحيان. سار على درب الكتمان والاخفاء جابر بن حيان فى معظم كتاباته ومخطوطاته لدرجة أن ابن خلدون هاجم أهل هذه الصنعة وكتاباتهم المليئة بالألغاز والطلسمات التي يتعذر فهمها. ولما لا يكون مثل هذا الكتمان؟ وأصل كلمة كيمياء قد جاء من ” كَمى ” التى تعنى ” خفى وأستر ” كما ذكر محمد بن أحمد في مفاتيح العلوم في القرن الرابع للهجرة. كما بلغت سرية الكيمياء أقصاها عندما أصبحت حكرا على الكهنة فى مصر القديمة وكانت تعرف آنذاك بسر الكهنة أو الصناعة التحتوية (نسبة إلى تحوت أو تحوتي أو جحوتي). وعلى أحد جوانب جدران البستان الكيميائى العظيم وجدنا مدلولات كثيرة على أن أصل الكلمة كان عربيا اسمً وفعلًا، اشتقاقًا من المصدر كَمى، علاوة على أن كل الحضارات بل وكل اللغات قد خلت من كلمة كيمياء التى جاء بها وبعلومها بنى جلدتنا من العرب. كان البستان الكيميائى القديم لايقترب من جدرانه الا من تعددت علوم معارفه فى شتى دروب المعرفة التى منها الطب والفلك والفلسفة….ألخ. كانت حقيبة الكيميائى منتفخة وكبيرة لما فيها من هموم بشرية وغير بشرية انكسرت صعوبتها وشدتها أمام صبر وجلد الكيميائى العظيم. داخل البستان الكيميائى ترك الكيميائى كل أحبابه بل وابتعد عن مسقط رأسه ليستزيد من أسرار علم الكيمياء، ولم يكن عدد صناع وتلاميذ صنعة الكيمياء كبير، لأنها اقتصرت فى كثير من الأحيان على الزاهدين فى حياة الترف والترفيه. فى العصور القديمة، كان هناك العاشقين لصنعة الكيمياء التى لم تبخل يوما ما على عشاقها بأى سر سعوا خلفه بغية التنمية الحضارية.
بستان الكيمياء حديثا
ولكن عندما توفرت التقنيات وبلغ العلم مداها وتطور الفكر وزادت الأشياء دقه، كانت اعادة هيكلة هذا البستان الكيميائى الخالد ليظهر فى أبهى صوره. اكتسب الكيميائى الحديث من نظيره القديم أصل الصنعة الكيميائية، وترك لخياله مطلق الحرية مسخرا فى ذلك كل الامكانيات المتاحة كى يعيد تصميم هذا البستان بحرفية شديدة تجذب نظر الناظرين وتخطف قلوب المحبين بل وتسيطر على عقل ومنطق القاصى قبل الدانى. كانت بداية الهيكلة فى تمهيد طريق كبير شق البستان الى نصفين أحدهما كان فى الكيمياء العضوية والأخر كان فى الكيمياء اللاعضوية، وضم كل شق من هذين الشقين أقسام وأقسام تعددت فى أشكالها وتشابكت فيما بينها لدرجة أننا قد رأينا أنواعا جديدة وفريدة فى نوعها من الشجار والزهور والثمار التى زادت من بهجة الحياة وسكبت علينا من ماء السعادة ما جعلنا نستمتع بالحياة.
زهور البستان الكيميائى
فى قلب البستان، كانت الحيرة تغمرنا والدهشة تسيطر علينا أمام هذا السحر والجمال الربانى. كانت الأشجار على كل صنف ولون بل وكانت الزهور الخلابه تجذب ذى بصر وبصيرة ناهيك عن الثمار المفيدة التى تملئ البستان الذى سبحنا فى بحور ومحيطات عطره المؤثر فى القلوب قبل النفوس. زهور بستان الكيمياء اينعت فى كل مناحى الحياة، فكانت الكيمياء الحيوية، والكيمياء الزراعية، والكيمياء الهندسية ، والكيمياء الصيدلانية ….ألخ. زهور وثمار كيميائية أثرت فى كل ألوان الحياة وتأثرت بكل جزئية فى هذه الحياة. وكأن الكيمياء هى أصل أصول الحياة بل هى محور الحياة وعمادها ولن أكون مبالغا لو قلت لولا الكيمياء ما كانت كل العلوم التى نعرفها. فالكيمياء هى قلب الجسد المعرفى كما أنها هى لب الاقتصاد المعرفى.