كشف مسح تم إجراؤه لأدمغة الأطفال والشباب أن هناك مناطق محددة من الدماغ تميل لأن تكون أصغر لدى الأشخاص الذين ينحدرون من خلفيات فقيرة مقارنة بالذين ولدوا لأسر أكثر ثراء، وقد كان أثر هذا العامل ملفتاً للانتباه بشكل أكبر بين الأسر الأكثر فقراً من الذين شاركوا في الدراسة، حيث تبين أن أبسط التغييرات في الأجور يمكن أن يكون لها تأثير كبير على بنية أدمغة الأطفال.
كشف المسح أيضاً أن المناطق الدماغية المتأثرة بهذا العامل هي المناطق التي تلعب دوراً أساسياً في تطوير اللغة والذاكرة ومهارات التفكير، أي تلك المنطقة التي تلعب دوراً مهماً للغاية في مساعدة الأطفال على تطوير إمكاناتهم في المدرسة والحصول على تعليم جيد، لذلك يأمل العلماء بأن تستطيع هذه النتائج المساعدة على تطوير أساليب جديدة لتعزيز نمو أدمغة الأطفال الذين هم في أمسّ الحاجة إليها.
تبعاً لـ(كيم نوبل)، وهي المؤلفة الرئيسية لهذه الدراسة من جامعة كولومبيا في نيويورك، فإن تشكيل الدماغ يعتمد بالأساس على كل من الوراثة والخبرة، وفي هذا المجال فإن التجربة تعتبر من العوامل القوية جداً في تشكيل نمو الدماغ لدى الأطفال، لذلك فإن إجراء أقل التدخلات الممكنة لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والحياة الأسرية وفرص التعليم للطفل، يمكن أن يحدث فرقاً شاسعاً لدى الأطفال خاصة في الأسر الفقيرة.
لإجراء البحث قام الباحثون بفحص أدمغة أكثر من 1000 طفل تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 20 سنة، وبعد أخذ العوامل الوراثية بعين الاعتبار، وجدوا بأن المساحة السطحية للقشرة الدماغية لدى الأطفال تميل لأن تتوسع كلما ارتفع دخل الأسرة، حيث تبين أن المساحة السطحية للقشرة الدماغية كانت تزيد بنسبة 6% لدى الأطفال الذين تصل أجور أسرهم لأكثر من 150,000 دولار سنوياً (101,000 يورو)، بالمقارنة مع الأطفال الذين ينتمون لعائلات تجني 25,000 دولار (17,000 يورو) أو أقل سنوياً.
بالإضافة إلى ذلك بيّن البحث أن المستوى التعليمي للوالدين كان له تأثير على بنية الدماغ لدى أطفالهم أيضاً، فقد أظهرت الفحوصات بأن بنية تلفيف الحصين كانت أكبر لدى الأطفال الذين ينتمون لأسر أكثر تعليماً، والجدير بالذكر أن تلفيف الحصين يلعب دوراً محورياً في الذاكرة قصيرة الأمد والتجول المكاني.
على الرغم من أن هذه الدراسة التي تم نشرها في مجلة (Nature Neuroscience) لا تشير بالتحديد إلى الأسباب التي جعلت هذه التغيرات تظهر في أدمغة الأطفال، ولكن العلماء القائمين على الأبحاث يعتقدون بأنها انعكاس للبيئة المختلفة التي تطورت فيها أدمغة الأطفال، حيث أن هناك العديد من العوامل التي من المرجح أن تتدخل في هذا الأمر، مثل تواجد الأطفال في محيط يشوبه التوتر والضغط، أو عيشهم في مناطق ملوثة، أو حقيقة أنهم قد يواجهون عدداً أقل من المحفزات المعرفية في حياتهم اليومية، أو أنه لا يتم التحدث إليهم بما فيه الكفاية، أو ربما كانت أمهاتهم يتناولن وجبات غذائية فقيرة أثناء فترة الحمل.
تبعاً لـ(اليزابيث سويل)، وهي من المؤلفين الرئيسيين لهذه الدراسة والمديرة التنموية لمختبر تصوير الأعصاب الإدراكية في مستشفى الأطفال في لوس انجلوس، فإن الأسر التي تعاني من صعوبات مالية غالباً ما تعاني من التوترات في حياتها، حيث أن هناك الكثير من القرارات التي يجب أن تتخذها الأسرة حول كيفية ترشيد الإنفاق ضمن الموارد المحدودة التي تمتلكها، لذلك فإن نوعية حياة العائلة التي يمتلك أفرادها دخلاً يصل إلى 50,000 دولار قد تكون أقل توتراً بكثير من العائلة التي لا يزيد دخلها عن 30,000 دولار سنوياً، ولكن بحسب (سويل) فإن تحسين فرص الحصول على الموارد التي تثري البيئة التنموية، يمكن أن تغيّر من مسارات تنمية الدماغ نحو الأفضل، حتى بالنسبة للأطفال والمراهقين في الفئة العمرية التي شملتها الدراسة.
يشير (مايكل توماس)، وهو مدير مركز علم الأعصاب التعليمي في كلية بيركبيك بجامعة لندن، إلى أن هذه الدراسة يمكن أن تساعد الباحثين على تحديد الكيفية التي يمكن من خلالها أن يؤثر الدخل المنخفض على أدمغة الأطفال، فإذا ما تبين أن جميع العوامل المرتبطة بانخفاض الدخل هي المسؤولة عن التاثير على أدمغة الأطفال -بما في ذلك صحة الأمهات أثناء الحمل ومستويات التوتر ومستويات التغذية والتحفيز المعرفي في البيئة التي ينتمي إليها الطفل-، فإن الطريقة الوحيدة لإصلاح المشكلة هي بالتخلص من الفقر، وهذا أمر يصعب القيام به، ولكن إذا كان بالإمكان حصر المؤثرات ببعض العوامل فقط، فإن هذا يجعل إمكانية التدخل لإصلاح المشكلة أكثر احتمالاً.
يخطط الآن مختبر نوبل في جامعة كولومبيا لإجراء تجربة كبيرة للتحقق مما إذا كان إعطاء دفعات شهرية من النقود للأسر الأكثر فقراً يمكن أن يعزز من نمو الدماغ لدى أبنائهم، حيث سيتم إعطاء مجموعة من الأمهات ذات الدخل المنخفض من مختلف أنحاء الولايات المتحدة إما مبلغاً شهرياً كبيراً، أو دفعة متواضعة، وذلك لمعرفة ما إذا كان المال يستطيع أن يحدث أي فرق في حياتهم، وتقول (نوبل) بأنه سيتم وضع السياسيين بصورة فوائد السخاء بالنسبة للأسر ذات الدخل المنخفض التي تمتلك أطفالاً صغاراً