في مفارقة مثيرة، يرى العلماء أن البشر يعرفون عن الفضاء أكثر مما يعرفون عن أعماق محيطاتهم التي تقبع بجانبهم، ووفقا للمؤسسة البيئية العالمية “أوشين وايز”، فإن أكثر من 95% من أعماق المحيطات تُعد أماكن غير مكتشفة بالنسبة للإنسان.
وتكمن معظم الأسرار في العوالم الخفية التي تقع على عمق يتراوح بين 6 إلى 11 كيلومترا تحت سطح البحر، حيث توجد منطقة “الأخاديد القاعية العميقة” وفقا لتصنيف علماء المحيطات. يدرك الكثيرون أن هذه المناطق المنسية لا تقل غموضا وغرابة عن أي كوكب آخر خارج المجموعة الشمسية.

كما أن أسرار الحياة في هذه البيئة القاسية، التي لا يصلها ضوء الشمس ولا حرارتها، تمثل تحديا كبيرا للعلماء في محاولة كشفها. وقد أظهرت أبحاث حديثة نشرت في دورية “سيل” تنوعا فريدا ومثيرا لكائنات ميكروبية تعيش في ظلام دامس وتحت ضغط هائل، وهي المرة الأولى التي تُرصد به مثل هذه الكائنات على هذا العمق.
عالم خفي يعج بالكائنات الحية الخارقة
تنعدم معالم الحياة التي يعرفها البشر على هذا العمق السحيق، في منطقة لا تصلها أشعة الشمس البتة، وعليه، فإن تلك المنطقة السحيقة تعاني من درجات حرارة قريبة من التجمد، بالإضافة إلى ضغط هائل يعجز عن تحمله أي كائن حي معروف، ورغم هذه الظروف القاسية، تمكن فريق من الباحثين من الصين تحديد 7564 نوعا من الميكروبات، تبيّن أن ما يقارب 90% منها لم يكن معروفا من ذي قبل.
وقد جاءت هذه الاكتشافات المهمة بعد إجراء 33 رحلة غوص إلى مواقع مختلفة، منها خندث ماريانا، الأمر الذي أتاح فرصة نادرة للعلماء لدراسة منظومة بيئية فريدة من نوعها، تتشكل في ظل أقسى البيئات الطبيعية على وجه الأرض، بل أيضا تبني لنفسها بيئة حيوية في معزل عن بقية الكوكب.
وتبرز الدراسة تأثير العوامل البيئية على تطور الميكروبات في مثل هذه الأعماق، إذ تبين أن بعض الكائنات الدقيقة تمتلك جينومات صغيرة وبسيطة، ما يجعلها أكثر كفاءة في التكيف مع بيئة فقيرة بالموارد. وقد أظهرت هذه الميكروبات امتلاكها لإنزيمات متخصصة تساعدها على تحمل الضغوط الفيزيائية والكيميائية الشديدة في هذه الأعماق السحيقة.

في المقابل، وُجدت ميكروبات أخرى ذات جينومات أكبر وأكثر تعقيدا، مما يمنحها قدرة أعلى على التكيف مع التغيرات البيئية، ويتيح لها تنويع مصادرها الغذائية، وهو ما يعزز فرص بقائها في مثل هذه الظروف القاسية.
التكيف والتعاون.. مفتاح النجاة في الأخاديد القاعية العميقة
لا تقتصر استراتيجيات البقاء في هذا النطاق السحيث على التكيف الجيني فحسب، بل تشغل العلاقات التعاونية بين الميكروبات دورا أساسيا في بقائها. ففي حين تسود المنافسة في البيئات البحرية الضحلة، كشفت الدراسة أن الميكروبات في هذه الأعماق تعتمد على استراتيجيات بقاء جماعية، حيث أظهرت بعض الأنواع قدرة على تكوين أغشية حيوية واقية تتيح لها مقاومة الظروف القاسية، بينما تعتمد أنواع أخرى على تبادل العناصر الغذائية للحفاظ على استمراريتها.
ومن اللافت أن كل موقع من مواقع جمع العينات كان يضم تركيبة ميكروبية خاصة به، مع تداخل ضئيل بين المواقع المختلفة، مما يشير إلى أن هذه الكائنات تؤسس لنظم بيئية مستقلة تتكيف مع بيئتها المحددة.
وتتجاوز أهمية هذه الاكتشافات حدود استكشاف أعماق المحيط، إذ تسهم في تعزيز فهم العلماء لإمكانية وجود حياة خارج كوكب الأرض. فمن خلال دراسة كيفية صمود الكائنات الحية في مثل هذه الظروف القاسية، يمكن استنتاج سيناريوهات مشابهة لبيئات قد تحتضن الحياة في أماكن أخرى من الكون، مثل المحيطات الجليدية على أقمار المشتري وزحل.
علاوة على ذلك، فإن الإنزيمات والمواد البيولوجية المكتشفة في هذه الميكروبات قد تفتح آفاقا جديدة في مجالات الطب والتكنولوجيا الحيوية والصناعات التي تتطلب مواد قادرة على تحمل الظروف القاسية.
وقد أتاح الفريق البحثي نتائج دراسته للعامة عبر مشروع “بيئة وأبحاث خندق ماريانا” (MEER)، ما يسمح للعلماء في مختلف أنحاء العالم بمواصلة دراسة هذه الكائنات الفريدة. ومع استمرار الأبحاث، قد يكشف نطاق الأخاديد العميقة عن مزيد من الأسرار حول قدرة الحياة على الصمود في أصعب البيئات، مما يعزز فهمنا لنظم الحياة على الأرض ويفتح آفاقا جديدة في البحث عن الحياة خارج كوكبنا.