لا يقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي في الرياضة اليوم على رفع أداء الرياضيين، بل يعيد صياغة أسس علم الرياضة جذريًا،من مراقبة معدل ضربات القلب إلى التنبؤ باحتمالية الإصابات.
مع دخولنا عصرًا جديدًا تلعب فيه البيانات دورًا محوريًا في الأداء الرياضي، يؤكد الدكتور باول غريمشاو، الأستاذ المشارك في جامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر، أن “الذكاء الاصطناعي قد غيّر وسيظل يغيّر على نحو جذري كيفية قياس وتحسين أداء الرياضيين”، وأن “التكنولوجيا القابلة للارتداء تأتي في طليعة الأدوات التي تحدث ثورة في هذا المجال”.
بفضل المستشعرات التي زودت بها وتقنيات الذكاء الاصطناعي المدمجة، تراقب الأجهزة القابلة للارتداء لحظيًا مؤشرات أداء رئيسية مثل معدل ضربات قلب الرياضي وحركته واستشفائه. ومع التطورات المتسارعة لهذه الأجهزة، أصبحت تتكامل بسلاسة مع أنظمة الذكاء الاصطناعي لتقديم تحليلات وتوصيات مُخصصة، مما يجعلها أداة لا غنى عنها للرياضيين، أفرادًا وفرقًا على حدّ سواء.

في هذا الإطار، يؤكد الدكتور باول، الخبير في مجال الأداء الرياضي والتكنولوجيا، أن “الأجهزة القابلة للارتداء تشهد تطورات متسارعة، فهي تصبح أصغر حجمًا وأكثر قدرة ودقة، حيث تضاف إليها تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تتحسن بدورها يومًا بعد يوم”.
على سبيل المثال، شهدت الأجهزة القابلة للارتداء الخاصة بالعدائين تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة. فبعد أن كانت قدرات هذه الأجهزة تقتصر حتى وقت قريب على تتبع عدد الخطوات والمسافة المقطوعة، أصبحت الآن قادرة على جمع بيانات مفصلة مثل إيقاع الجري، وطول الخطوة، وصولًا إلى قوة اصطدام القدم بالأرض. وبفضل قدرتها على تحليل هذه البيانات لحظيًا، تستطيع هذه الأجهزة تحديد الأنماط، وتقديم ملاحظات فورية، وتوفير رؤى قيمة تساعد في تجنب الإصابات.

يقول الدكتور باول: “كلّما انتقلنا في المجال الرياضي إلى مستويات أعلى، باتت الفروق بين النجاح والفشل ضئيلة للغاية – فكل جزء من الثانية له أهميته – وهنا يكمن التأثير الأكبر للذكاء الاصطناعي، الذي بفضله نحقق مستويات دقة غير مسبوقة، بما يمكّن الرياضيين من تحسين أدائهم، وتطوير أساليبهم، وتحقيق أقصى إمكاناتهم بصورة لم تكن ممكنة من قبل”.
لكن الأمر لا يتوقف عند تحسين الأداء، فالبيانات اللحظية التي تجمعها الأجهزة القابلة للارتداء تلعب دورًا بالغ الأهمية في حماية الرياضيين من خطر الإصابات، وهو ما يشرحه الدكتور باول قائلًا: “تحلل الأجهزة البيانات الحيوية والحركية وتكشف عن أوجه الخلل، مثل قوة الضغط الناجمة عن حركة معينة، والتي قد تؤدي إلى إصابة أو إجهاد بعد فترة زمنية محددة. وبناءً على ذلك، يُنصح الرياضي إما بتعديل أسلوبه أو أخذ قسط من الراحة. كما يُمكن للأجهزة تقديم تصور عن استراتيجيات التعافي المُثلى للرياضي ووضع خطط استشفاء مخصصة”.
ما مدى دقة أجهزة الذكاء الاصطناعي في الرياضة؟
يجيب الدكتور باول: “صحيح أن الأجهزة القابلة للارتداء قد تطورت كثيرًا، إلا أن هامش الخطأ يبقى واردًا. لذا، يجب على المستخدمين توخي الحذر عند استخدامها لتشخيص حالات مثل الإجهاد أو الوقاية من الإصابات”.
يتابع الدكتور باول، مؤكدًا ضرورة عدم الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا: “الأجهزة القابلة للارتداء يجب أن تكون إضافة مكمّلة لاستراتيجية شاملة للوقاية من الإصابات، لا أن تحل محلها. إذ تبقى التقييمات التي يجريها متخصصو الطب الرياضي وأساليب التدريب المناسبة أمرًا لا غنى عنه في الحفاظ على صحة الرياضي وتطوير أدائه”.

ويضيف موضحًا أن “دقة البيانات التي تجمعها الأجهزة القابلة للارتداء تختلف بحسب نوع الجهاز وموضع ارتدائه، لذا من الضروري اختيار علامات تجارية موثوقة والتأكد من وضع الجهاز بشكل صحيح للحصول على بيانات دقيقة”.
لقد واجه المدربون والرياضيون تحديًا كبيرًا في بداية استخدامهم الأجهزة القابلة للارتداء والذكاء الاصطناعي، ألا وهو الكم الهائل من البيانات التي كان عليهم النظر فيها. ويبيّن الدكتور باول: “صحيح أن البيانات مهمة جدًا، لكنها غير ذات قيمة ما لم تُحلل وتُطبّق عمليًا. فالرياضيون والمدربون لا يملكون الوقت الكافي لتحليل آلاف البيانات، وهنا يأتي دور التعلم الآلي”.
يعتمد التعلم الآلي، وهو أحد أشكال الذكاء الاصطناعي، على تحليل الأنماط في البيانات ليُصبح أكثر دقة مع مرور الوقت. ويُترجم هذا في مجال الرياضة إلى إمكانية اكتشاف علامات الإجهاد المبكرة لدى الرياضيين والتنبؤ بأدائهم المستقبلي.
يعلّق الدكتور باول: “تجمع هذه التقنيات البيانات الأولية وتحللها، والأهم من ذلك، أنها تُحوّلها إلى معلومات مبسطة قابلة للتطبيق وسهلة الاستخدام، وهو أمر بالغ الأهمية – هذا ما يُتيح الحصول على تقييم وتحليل فوري لأداء الرياضيين”.
كان هذا دور الذكاء الاصطناعي فيما يخص أداء الرياضيين الأفراد،
ما دور الذكاء الاصطناعي في الرياضة في تحسين أداء الفرق؟
يجيب الدكتور باول: “من خلال تحليل الذكاء الاصطناعي بيانات أكثر من لاعب في الفريق في وقت واحد، يُمكن له فهم ديناميات الفريق ونقاط قوته وضعفه. وهذا يُساعد المدربين على وضع استراتيجيات فعّالة تُساهم في تحقيق أفضل أداء للفريق وتعزيز الانسجام بين اللاعبين”. ويتابع: “نرى هذا مطبقًا بالفعل على نطاق واسع في رياضات مثل كرة القدم. إذ تحمل السترات التي يرتديها اللاعبون تحت قمصانهم أجهزة تتبع”.
أجهزة التتبع هذه، وفقًا للدكتور باول، تُمكن المدربين والطاقم الفني من متابعة كل حركة على أرض الملعب، بما فيها تحديد اللاعبين الذين يغطون مساحة أكبر، وعدد مرات التسديد والتمرير ولمس للكرة. ويضيف: “عندما تُشير البيانات إلى احتمال تعرض اللاعب للإجهاد إذا استمر في اللعب، يجري استبداله على الفور. وهذا لا يضمن فقط تحقيق أفضل أداء لجميع اللاعبين في الملعب، بل يُساهم أيضًا في الوقاية من الإصابات، حيث يجري تبديل اللاعبين قبل أن يصابوا بالإجهاد أو يتعرضوا للإصابة”.
وكأي تقنية جديدة، يُواجه الذكاء الاصطناعي تحديات عدّة مع دخوله عالم الرياضة، وفي مقدمتها مسألة خصوصية البيانات وأمنها. يقول الدكتور باول: “يثير جمع وتخزين بيانات الرياضيين مخاوف جدية بشأن الخصوصية. لا شك أن وضع ضوابط صارمة ولوائح أخلاقية أمر ضروري لحماية هذه المعلومات الحساسة، لكن هذه اللوائح لم تأخذ شكلها النهائي بعد. لذا، نحن بحاجة ماسة إلى مجموعة موحدة من اللوائح”.
يواجه استخدام الذكاء الاصطناعي في عالم الرياضة تحديًا آخر لا يقل أهمية عن مسألة خصوصية البيانات وأمنها، ألا وهو تكلفة هذه التقنيات وإمكانية الوصول إليها. ويوضح الدكتور باول: “قد تكون تقنيات الذكاء الاصطناعي باهظة الثمن، ولا يتمتع جميع الرياضيين أو الفرق بفرص متساوية للوصول إلى هذه الأدوات المتطورة”.
يضيف: “لتحقيق انتشار واستخدام واسعين، من الضروري ضمان أن تكون حلول الذكاء الاصطناعي في متناول جميع المستويات في المجال الرياضي وبأسعار معقولة”.