تشير (سارة-جين بلاكمور) وهي أستاذة في علم الأعصاب الإدراكي ونائبة مدير معهد علم الأعصاب الإدراكي في كلية جامعة لندن، والتي تقود حملة دفاعية قوية عن كل مراهق في بريطانيا، بأن المراهقين يعانون حقاً خلال مراهقتهم من أوقات صعبة جداً، حيث أن السخرية من هذه الفئة العمرية وتشويه صورتها يبدو أمراً مقبولا تماماً من قبل الجميع، على الرغم من أن هذا السخرية ذاتها تبدو غير مقبولة بتاتاً إذا ما تم تطبيقها على أي فئة آخرى في المجتمع.
إن استجابة المجتمع لقناعات المراهقين كثيراً ما تتسم بعدم الصبر، حيث يُعتقد بأن هذه الفئة العمرية تتميز بتقلب المزاج والإنطوائية والتهور والعناد والتحدي، وتهدف (بلاكمور) إلى إيصال رسالة مفادها أن المراهقين على حق في تصرفاتهم، وأن معظم المجتمع لا يفهم قناعات المراهقين.
قبل 20 عاما فقط، كان يُعتقد بأن نمو الدماغ يتوقف في مرحلة الطفولة المبكرة، ولكن بعد ظهور تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الضوئي المتطور، اكتشف العلماء في الولايات المتحدة أن الدماغ يستمر في التغير حتى مرحلة المراهقة، لذلك وعلى مدى الـ 10 سنوات الماضية، قامت (بلاكمور) مجموعة من علماء الأعصاب الدوليين، بمحاولة اكتشاف المزيد عن الكيفية التي يتطور فيها الدماغ خلال هذه الفترة من الحياة، حيث تبين أن التغييرات التي تطرأ على المادة الرمادية في قشرة الفص الجبهي تكون كبيرة بشكل خاص خلال سنوات المراهقة، وهذا ما يعيث فساداً في عقول المراهقين، ويؤثر على الحياة الأسرية بشكل عام.
إذا ما تمكن العلماء من “رؤية” الدماغ بشكل صحيح وفهم الطريقة التي يعمل فيها خلال التجارب المختلفة، سيتمكنون حينها من السيطرة على تصرفات المراهقين، والعمل على الاستفادة من كامل إمكانيات أدمغة المراهقين حول العالم، لهذا تعمل (بلاكمور) وفريقها المخبري على تقديم نتائج جديدة في كل عام حول التغييرات الفيزيولوجية الملموسة والقابلة للقياس لأدمغة المراهقين من حيث البنية والوظيفة.
يمتلك العلماء حالياً معلومات قليلة عن الكيفية التي يتعلم بها الدماغ في سن المراهقة، والكيفية التي تتطور فيها هذه القدرة، إلّا أن الدراسات لم تقم بالغوص في أعماق هذه العملية بعد، فمثلاً تشير (بلاكمور) بأن وقت بدء المدرسة – الذي عادة ما يكون بين 8:30 و 09:00 صباحاً – هو “منتصف الليل” بالنسبة للمراهقين، حيث أن دماغ المراهقين يقوم بالإفراج عن الميلاتونين (هرمون النوم) بعد ساعات من الوقت الذي يتم فيه إفراز هذا الهرمون في أدمغة البالغين، ولهذا يكون المراهقين قادرين على البقاء مستيقظين لفترة أطول من البالغين في الليل، ولكنهم بالمقابل سيكونون بحاجة إلى المزيد من النوم في الفترات الصباحية، وبحسب تعبير (بلاكمور) فإن إيقاظ المراهقين في الساعة الـ 8:30 صباحاً مشابه لإيقاظ شخص بالغ في الساعة 05:30 صباحاً، لذلك فإن المراهقين يعانون بشكل عام من هذا الاختلاف الاجتماعي في التوقيت، وبالتالي تطول فترات بقائهم نائمين في عطلة نهاية الأسبوع، وهذا الفعل لا يجب أن يفهم بأي حال من الأحوال على أنه تبلد أو كسل، ففي الحقيقة كل ما يحدث هو أن أجسامهم تحاول إعادة التوازن بعد أن أجبروا على الاستيقاظ في وقت مبكر جداً –بالنسبة لهم- في الأيام السابقة.
تضيف (بلاكمور) أن العقول في سن المراهقة تكون قادرة على الإبداع بشكل هائل، ولكن المدارس غالباً ما تهمل ناحية التنمية الإبداعية في جداولها الدراسية، وتعتمد على مبدأ أن هذا النوع من التنمية يجب أن يكون خلال السنوات الأولى من حياة الإنسان، ولكن بعد معاينة الكم الهائل من المعلومات الجديدة التي توافرت لدينا عن تطور الدماغ في سن المراهقة، يجب أن يتم الأخذ بعين الاعتبار أن استثمار المواهب في المراهقة أمر مهم للغاية أيضاً، حيث أن أدمغة المراهقين تمتلك قدرة استثنائية على التعلم، وسن المراهقة بالتأكيد هو الوقت الخطأ لخنق الإبداع لديهم.
بعض التغيرات التي اقترحت (بلاكمور) إدخالها على النظام التعليمي كانت تتمثل بالاعتماد بشكل أكبر على أسلوب الند للند في التعليم، وإعطاء المعلومة عن طريق التعلم الذاتي، عوضاً عن استعمال طريقة التلقين، وتوفير وقت أطول للمهارات الإبداعية، إضافةً لجعل العملية التعليمية تتم في مساحات مفتوحة بدلاً من الصفوف المغلقة، مما يوفر إمكانية أكبر للحركة وفترات أقل من الجلوس وراء الطاولات كل يوم.
ولكن يبقى السؤال المطروح دائماً، ماذا يجري داخل عقول المراهقين تحديداً، فإذا ما أخذنا نظرة عامة إلى هذه الفئة العمرية، نلاحظ أن تصرفات المراهقين تختلف من شخص إلى آخر، ولكن هناك بعض السلوكيات التي يشترك بها جميع المراهقين تقريباً وتميزهم عن غيرهم من الفئات العمرية الأخرى، مثل التأثر بالأقران والاندفاع نحو المخاطرة، والسؤال ما هو الأساس البيولوجي الذي يتحكم بهذه الدوافع ولماذا تحدث هذه السلوكيات في المقام الأول لدى جميع المراهقين؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي: قشرة الفص الجبهي، حيث أن هذه المنطقة تعمل على تنظيم الاستجابات العاطفية وتمنع الإنسان من المخاطرة، وإن التغيرات الفيزيولوجية التي تمر بها قشرة الفص الجبهي هي ما يجعل بعض المراهقين يتصرفون بطرق تبدو غير مفهومة، وتوضح (بلاكمور) هذه الناحية بأن هذه المنطقة من الدماغ تكون نسبياً أكبر بكثير لدى البشر منها لدى أي من الأنواع الأخرى، وهي تشارك في مجموعة واسعة من الوظائف المعرفية على المستوى العالي، حيث تشارك في صنع القرار والتخطيط القصير والطويل المدى، ومنع القيام بالسلوكيات الغير لائقة، كما أنها تشارك أيضاً في فهم الآخرين والوعي الذاتي، وعلى اعتبار أن حجم المادة الرمادية يصل إلى ذروته في قشرة الفص الجبهي في مرحلة المراهقة المبكرة ثم يتناقص، فإن هذا يعني أن مرحلة المراهقة تشكل العملية التنموية الأكثر أهمية في حياة الإنسان، فمع التغيرات التي تصيب قشرة الفص الجبهي، تبدأ مرحلة التشذيب للمشابك العصبية، حيث يتم إزالة الاتصالات التي تكون متكونة بين الخلايا في قشرة الفص الجبهي لدى المراهقين والتي لم يتم استعمالها، تماماً مثل تقليم الفروع الضعيفة في الشجيرات بحيث تستطيع الفروع الهامة أن تنمو بشكل أقوى.
هذا النوع من التغيير لا يأتي بدون عواقب، حيث تبين أن إزالة الاتصالات تؤدي إلى قيام المراهقين بأفعال متهورة وخطيرة، مثل قيادة السيارات بسرعة كبيرة، أو الرغبة في القفز من على السقف في الحفلات، وهذا النوع من السلوكيات يخضع لحكم الجهاز الحوفي، ومجموعة من المناطق الدماغية التي عادة ما تكون شديدة الحساسية خلال فترة المراهقة للشعور بالمكافأة التي تأتي من المخاطرة، لذلك فإن جميع التصرفات التي تصدر عن المراهقين وتجعلهم يبدون أنانيين تماماً وغير قادرين على رؤية وجهة نظر الآخرين، يرجع إلى تأثير التغييرات التي تجري في قشرة الفص الجبهي، وهذا يؤثر بالنتيجة على قراراتهم الاجتماعية وطريقة تفكيرهم في الأشخاص الآخرين.
من جهة ثانية، يمكن القول بأن المراهقين يهتمون بالنتائج الاجتماعية أكثر بكثير من البالغين، فمن منظور علمي عصبي، تقوم أدمغتهم بتتبع تأثير الاستبعاد الاجتماعي بشكل أكثر حدة من غيرهم، فهم يفكرون بشكل مكثف عن بيئتهم وتأثيرها الإيجابي أو السلبي عليهم، فمثلاً بالنسبة لفتاة في سن المراهقة فإنها قد تمتلك لأصدقاء مدخنين، وعلى الرغم من أنها تدرك الآثار الصحية الضارة الناجمة عن التدخين، إلا أن قرارها حول الإنضمام إليهم من عدمه سيتأثر بخوفها من احتمالية أن تصبح مرفوضة من قبل أصدقائها “وهذا ما نقصده بكلمة تأثير الاستبعاد الاجتماعي”، لذا قد تبدأ هذه الفتاة بالتدخين بغض النظر عن النتائج، لأنها تريد أن تنتمي إلى المجموعة، وهذه السلوكيات التكيفية، تكون متوقعة خلال مسيرة المراهقين للبحث عن الاستقلال، وعلى الرغم من أن هذا الأمر لا يجعل من التدخين لدى المراهقين أمراً مقبولاً، إلّا أن العوامل الفيزولوجية المشاركة بهذا الفعل تجعل منه أمراً مفسراً، وهذا يمكن أن يكون مفيداً للآباء والأمهات لفهم ما يحدث مع أبنائهم.
على الرغم من أن ظاهر الأمور يشير أحياناً إلى أن المراهقين قد يرفضون والديهم، ولكن في الحقيقة هم يحتاجون إليهم، بقدر ما يحتاج الرضيع لأبويه، لأنهم في النهاية ما يزالون أطفالاً، ولكنهم يحاولون أن يتصرفوا مثل الكبار لأنهم يريدون أن تتم معاملتهم مثل الكبار، لذلك فإن هذا الوقت قد يكون صعباً جداً بالنسبة لهم، فهم يحتاجون إلى والديهم كثيراً، ولكنهم في الوقت ذاته يسعون لينالوا استقلاليتهم.
تشمل أبحاث (بلاكمور) وزملائها نطاقين أساسيين، النطاق الأول يتم على مراهقين متطوعين معينين من قبل مدارسهم، والنطاق الثاني عبارة عن مشاريع بحثية واسعة النطاق تنطوي على صفوف دراسية كاملة من جميع أنحاء لندن وأحياناً خارجها، وهذا النوع من المشاريع يمكن أن يضم ما يصل إلى 1,000 طفل، ولكن الجزء الأصعب من هذا النوع من الأبحاث هو شرح الدراسة كاملة لعدد كبير من الأشخاص حتى يستطيع الباحثون الحصول على العدد اللازم من المتطوعين للدراسة.
استطاع الباحثون تجميع النتائج على مدى عدة أشهر، وهم ينظرون الآن في جميع درجات الاختبار، لمعرفة مقدار تطور المراهقين وعما إذا كان العمر عامل أساسي في هذا التحسن أم لا، وهدفهم من ذلك هو محاولة معرفة ما إذا كانت التغيرات التي تطرأ على الدماغ تجعل المراهقين قادرين على تعلم مهارات معينة مثل الجبر في عمر معين، ولكن تبعاً لـ (بلاكمور) فإن الفريق لم يستطع الوصول حتى الآن لأي نتائج، ومن المرجح أن يستغرق الأمر عاماً آخر قبل الوصول إليها، حيث يأمل الباحثون أن يصلوا لطريقة تمكنهم من جعل المراهقين في النهاية يتكيفون مع الأفكار السلبية والأحداث المجهدة والمقلقة في الحياة، بحيث يمكن منعهم من الوصول إلى مرحلة الاكتئاب من خلال تنظيم العواطف وممارسة ضبط النفس.