عبر عشرات الملايين من السنين شهدت الأرض العديد من الانقراضات الجماعية، أشهرها ما قضى على الديناصورات، وحدها ظلت شجرة الجنكة صامدة في مكانها في أقاصي الصين، تتحدى عوادي الزمن ، بل إن ستة أشجار منها زرعت في هيروشيما اليابانية ظلت على قيد الحياة الى يومنا هذا لتظل شاهدة على القصف النووي للمدينة، إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، شجرة الجنكة هي بالفعل نموذج ل “حفرية حية” خالدة لم يتغير تركيبها على مدى مائتي مليون عام. فما سر هذه الشجرة وهل هي فعلاً لا تموت، وهل توصل الباحثون بالفعل إلى الآليات الجزيئية التي تمنح الجنكة – وربما أشجاراً أخرى – سر الخلود.
سر العمر الطويل
لطالما اعتقد العلماء أنه يمكن لأشجار الجنكة _ التي تنتشر طبيعياً في منطقتين صغيرتين في مقاطعة جيجيانغ شرقي الصين، أن تعمر لأكثر من ثلاثة آلاف عام، لكن نتائج الدراسة الأكثر تفصيلاً والتي نتناولها اليوم تشير إلى أن عمرها الافتراضي غير محدود من الناحية النظرية.
وبالرغم من أن الشيخوخة والموت جزء طبيعي من سيرورة الحياة في هذا العالم ، فإن أشجار الجنكة العجوز لا يبدو عليها الكثير من مظاهر الشيخوخة، فقط حلقات الخشب التي تكونها تصبح أرق مع مرور السنين ، وأظهرت نتائج الدراسة _ التي أجراها لي وانغ، عالم الأحياء الجزيئية النباتية في جامعة يانغتشو وزملاؤه، أن قدرة الأشجار المعمرة على التمثيل الضوئي، وانتاج الأوراق والبذور، ومقاومة الأمراض هي تماماً كمثيلتها عند الأشجار الصغيرة، وعند فحص عينات الأنسجة من تسعة أشجار جنكة يتجاوز عمرها 600 عام ، لم يعثر الفريق على دلائل الشيخوخة في تلك الأنسجة إطلاقاً .
وفي حديثه لصحيفة نيويورك تايمز، قال عالم الأحياء ريتشارد ديكسون من جامعة نورث تكساس “مع تقدمنا في العمر نعاني نحن البشر، من تدهور جهاز المناعة، لكن الجهاز المناعي في أشجار الجنكة التي تجاوز عمرها الألف عام، يعمل بكفاءة كما لو كانت في عمر العشرين“.
وفي حين ركزت الدراسات السابقة ، على أوراق الجنكة بشكل أساسي، فإن الأبحاث الجديدة تناولت كامبيوم الشجرة الوعائية – وهي تلك الطبقة الرقيقة من الخلايا الجذعية بين الخشب الداخلي واللحاء الخارجي التي تتمايز إلى أنسجة أخرى طوال حياة الشجرة لتنتج لحاءاً وخشباً جديدين.
تحتوي هذه المنطقة على خلايا Meristem ، التي تشبه الخلايا الجذعية في الحيوانات، ومن أجل تحديد مدى التغيرات التي تحدث بمرور العمر، فحص الباحثون نشاط أنسجة الكامبيوم لكل شجرة على حدة وقاموا بقياس مستوي الهرمونات ، وجينات مقاومة الأمراض ، وكذلك عوامل النسخ المرتبطة بموت الخلية.
أشجار الجنكة تموت واقفة.
وبرغم اختلاف أعمار الأشجار التي تمت دراستها، لم يلاحظ الباحثون فروقاً بينها في نشاط الجينات أو مقاومة الأمراض، فقط التغيير الوحيد الذي لاحظه الباحثون هو تناقص عرض حلقات الشجرة، بصورة لافتة للنظر بعد مرور مائة عام من عمرها ، واستمر ذلك الإنخفاض وإن كان بمعدل أبطأ خلال مئات السنين التالية، لكن ذلك لم يؤدي الى إعاقة نمو الأشجار، حيث أن نمو الأشجار الثانوية (يقاس بزيادة مساحة الشجرة القاعدية ، أو BAI) ، لم يظهر أي انخفاض من أشجار الجنكة التي عمرها 10 إلى 600 عام، مما يعد دليلاً واضحاً على أن كامبيوم أشجار الجنكة يظل قادراً على النمو المستمر لمئات السنين أو حتى آلاف السنين”، وهي بالطبع ميزة تسمح للشجرة “بالهروب من الشيخوخة على مستوى النبات بالكامل”.
العلماء يحصدون الكهرباء من الأشجار
ومع ذلك، هناك أدلة على أن هذه الأشجار تتغير بمرور الزمن، فقد لوحظ أن الأشجار الأكبر سناً تمتلك مستويات منخفضة من هرمون النمو يسمى حمض الأسيتول – إيندول -3، ومستويات أعلى من هرمون مثبط للنمو يسمى حمض الأبسيسيك.
كما شهدت تلك المائتي عام أو أكثر من عمر أشجار الجنكة انخفاضاً في التعبير الجيني المرتبط بانقسام الخلايا والتمايز والتوسع، ما يعني أن الخلايا الجذعية الكامبية في الأشجار المعمرة لا تكون خشب جديد ولحاء بنفس كفاءة الأشجار الأصغر سناً، ومن المحتمل أنه إذا ما استمر معدل انقسام الخلايا القشرية في الانخفاض بعد آلاف السنين، فقد يتباطأ نمو الأشجار ، وقد تموت أشجار الجنكة في نهاية المطاف بسبب الشيخوخة.
ومع ذلك، يبدو أن معظم الأشجار تموت من “الحوادث” مثل الآفات أو الجفاف أو أية عوامل خارجية أخرى مثل الرياح أو الحريق أو البرق أو المرض أو التكدس في مساحة محدودة، وهي الأسباب التي وضعت أشجار الجنكة على حافة الانقراض في العصر الحديث، لكن خلاصة الدراسة تؤكد أن الشيخوخة لن تكون السبب في انهاء حياة هذا النوع من الأشجار.
بانتظار المزيد من الدراسات.
في تصريحه لمجلة Science يقول Sergi Munné-Bosch المتخصص في دراسة فسيولوجيا النبات من جامعة برشلونة، والذي لم يشارك في الدراسة “الشيخوخة ليست مشكلة لهذا النوع من الكائنات ، المشكلة الأكثر أهمية التي يجب على تلك الأشجار التعامل معها هي الإجهاد الذي تتعرض له بفعل العوامل الخارجية“.
في النهاية يظل ما يحدث شجرة الجنكة وهي بعمر ستمائة عام محل نقاش وسجال بين العلماء، ولا تزال هناك فرصة لأن تبدأ هذه الأشجار في إظهار علامات الشيخوخة الجزيئية في أعمار متقدمة، ونظرا لكون هذه الدراسة ذات مدى زمني محدود للغاية،نظل بحاجة إلى مزيد من البحث قبل أن نتمكن من معرفة ما يحدث لشجرة الجنكة على مدار حياتها الطويلة، وربما تؤدي الدراسات التي أجريت على الأشجار الأخرى مثل الخشب الأحمر أو الميثوسيلا إلى نتائج مماثلة.
يقول عالم الأحياء التطورية بيتر كرين مؤلف كتاب “الجنكه: الشجرة التي نسيها الزمن” يساعدنا التفكير في الأشجار المعمرة علي النظر إلي المستقبل من نافذة أوسع مما تعود بعضنا النظر خلالها، ويمنحنا طريقة لمعايرة مدى السرعة التي يتغير بها عالمنا ولكي نتجنب دوما التفكير في المدى القصير الذي نقضيه علي هذا الكوكب“.
المصدر