خلال الحرب الاخيرة على غزة ولبنان، شاهدنا الكثير من الفيديوهات التي توضح التشويش على GPS والتي أدت إلى خلل كبير في برامج الملاحة العالمية مثل خرائط قوقل أو خرائط Waze عند استخدامها في الأردن أو لبنان. تظهرك بعضها في مواقع جغرافية مختلفة.

قد تبدو هذه الخريطة كخريطة الطقس، لكن ما تظهره ليس النوع المعتاد من التداخل الجوي. تشير الأشكال السداسية الحمراء إلى المناطق المتأثرة بالتشويش على نظام تحديد المواقع العالمي خلال فترة محددة.
يمكن أن يكون التشويش على نظام تحديد المواقع، الذي يعطل أنظمة الملاحة في الأجهزة الإلكترونية، بما في ذلك تلك المستخدمة لتحديد مواقع الطائرات، أن يكون قاتلًا، حيث لا يستطيع نظام الملاحة في الطائرة معرفة الطريق الصحيح الذي سيسلكه. وهو ما حصل مع طائرة الخطوط الجوية الأذربيجانية 8243 يوم عيد الميلاد في غرب كازاخستان، مما أسفر عن مقتل 38 راكباً وطاقم الطائرة.
وكما يوحي التوزيع الجغرافي للأشكال السداسية الحمراء، فإن التشويش على نظام التموضع العالمي يحدث بشكل رئيسي في مناطق النزاع في العالم وحولها.
يهيمن اللون الأحمر على الأجواء فوق روسيا الأوروبية والبحر الأسود وبالقرب منها – بشكل أساسي، حول أوكرانيا؛ وفوق أجزاء كبيرة من تركيا والشرق الأوسط؛ وعبر القوقاز وبحر قزوين، وهي المنطقة التي شهدت تحطم طائرة الخطوط الجوية الأذربيجانية؛ وفي أقصى الشرق، فوق كشمير الخاضعة للإدارة الهندية، وفي بورما/ميانمار، موطن أطول حرب أهلية في العالم، منذ عام 1948.
وفقاً لهذه اللقطة، لا يمثل التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مشكلة كبيرة في بقية أنحاء العالم. ومع ذلك، في أوقات أخرى، سيظهر “طقس نظام تحديد المواقع العالمي” على هذه الخريطة، التي يقدمها المتخصصون في تتبع الرحلات الجوية FlightRadar24، بعض التشويش بالقرب من الحدود الأمريكية المكسيكية. هناك أيضاً تقارير متكررة عن التشويش من كوريا الشمالية باتجاه الجنوب، ومن الصين باتجاه تايوان.
سواء في الحروب التقليدية أو الهجينة، يعد التشويش على نظام التموضع العالمي أحد أشهر أشكال الحرب الإلكترونية. فما هو بالضبط؟
التشويش على GPS
لفهم مدى اعتماد الطيران اليوم على نظام تحديد المواقع العالمي، يجدر بنا العودة إلى الوراء إلى ما قبل أقل من قرن من الزمان. حيث لم تكن هناك أقمار صناعية، ففي عام 1927 عندما ذهب تشارلز ليندبيرغ في رحلته المنفردة دون توقف محطماً الرقم القياسي عبر المحيط الأطلسي. لم يكن لديه سوى بوصلة للملاحة لحساب موقعه. عندما وصل إلى خليج دينجل في أيرلندا، أول أرض جافة منذ نيوفاوندلاند، اتضح أن حساباته كانت بعيدة عن موقعه بثلاثة أميال فقط – وهو إنجاز مثير للإعجاب مثل الرحلة نفسها.
وعلى الرغم من دقة حساباته في الأجواء الخالية نسبياً من الطائرات في عشرينيات القرن الماضي، إلا أن طائرات اليوم تحتاج إلى أن تكون أكثر دقة بكثير فيما يتعلق بمواقعها – وهي كذلك بفضل الأقمار الصناعية والإشارات التي ترسلها.
تستخدم الطائرات الحديثة النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS) لمعرفة مواقعها. أو بتعبير أدق، تستخدم ما يسمى بالنظام العالمي للملاحة بالأقمار الصناعية (GNSS)، والذي لا يشمل نظام تحديد المواقع العالمي الأمريكي فحسب، بل يشمل أيضاً أنظمة مماثلة في جميع أنحاء العالم، مثل نظام غاليليليو الأوروبي، ونظام غلوناس الروسي، ونظام بايدو الصيني.

تُساعد الإشارات القادمة من هذه الأقمار الصناعية في تحديد الموقع الجغرافي بشكل دقيق للمستقبل الموجود على متن الطائرة، والذي بدوره ينقل هذا الموقع إلى المحطات الأرضية والطائرات الأخرى.
إذا سار كل شيء على ما يرام وفي الحالة المثالية، يعمل النظام بشكل دقيق. ويمكن للعواصف الشمسية أن تعطل أو تُضعف إشارات أنظمة الملاحة العالمية عبر الأقمار الصناعية (GNSS). ولكن الأكثر خطورة، والاخذ بالتزايد مؤخرا، هو الاضطرابات والتشويهات المتعمدة التي يصنعها البشر للإشارة.
أحد أنواع هذه التدخلات البشرية هو التشويش على إشارات GPS: حيث يتم إغراق المستقبلات بإشارات غير صالحة، مما يجعل من المستحيل استخدام GPS (أو GNSS) لتوجيه الطائرة. (نوع آخر هو تزوير إشارات GPS، حيث يتم خداع المستقبل لإرسال موقع خاطئ، مما يؤدي أحيانًا إلى نتائج غريبة — انظر خرائط غريبة #1074).
التشويش على إشارات GPS يُعد مصدر إزعاج للطيران، ولكنه بشكل عام ليس مانعًا. تستخدم الطائرات تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية جنبًا إلى جنب مع أنظمة أخرى لتحديد موقعها، وتحديدًا نظام WAAS (نظام التعزيز واسع النطاق) للملاحة العامة، ونظام GBAS (نظام التعزيز القائم على الأرض) عند الاقتراب من المطارات. شركات الطيران على علم بتشويش إشارات GPS، وطاقم الطائرة يعرف كيفية استخدام هذه الأنظمة الاحتياطية لضمان سلامة الرحلة.
ذلك لأن معظم تشويش إشارات GPS لا يستهدف الطائرات بشكل رئيسي. يمكن استخدامه لتعطيل الصواريخ والأجهزة الأخرى التي تعتمد على GPS، بما في ذلك الطائرات بدون طيار والهواتف. تستخدم روسيا هذه التقنية لصد هجمات الطائرات بدون طيار الأوكرانية — ويُقال إن هذا ما حدث فوق غروزني بينما كانت طائرة الركاب الأذربيجانية تستعد للهبوط، مما أدى على الأرجح إلى خلطها مع صاروخ معادي.
ومع ذلك، يبدو أن روسيا تستخدم التشويش على إشارات GPS ليس فقط داخليًا لتعطيل الهجمات المعادية على أراضيها، ولكن أيضًا خارجيًا كجزء من “حرب الظل” الهجينة ضد أوروبا، لتصبح مصدر إزعاج إلكتروني. بعض الأمثلة:
- في عام 2022، تعرضت فنلندا لتشويش على إشارات GPS مباشرة بعد اجتماع بين رئيسها ونظيره الأمريكي، الرئيس السابق جو بايدن، حول موضوع انضمام فنلندا إلى حلف الناتو.
- في عام 2023، بعد تفعيل بولندا لنظام مضاد للصواريخ بالقرب من منطقة كالينينغراد الروسية المنفصلة، تأثرت إشارات GPS في شمال البلاد بهجمات تشويش وتزوير.
- بحلول منتصف عام 2024، أصبح التشويش على إشارات GPS في منطقة فينمارك شمال النرويج منتشرًا لدرجة أن السلطات توقفت عن تسجيل الحوادث، واعتبرتها “الوضع الطبيعي الجديد”.
- في 12 ديسمبر 2024، انضمت بلغاريا ورومانيا إلى منطقة شنغن، منطقة السفر الخالية من التأشيرات في أوروبا. مباشرة بعد ذلك، تعرضت العاصمة البلغارية صوفيا لتشويش على إشارات GPS.

كان التشويش على إشارات GPS أيضًا عاملاً في الحرب التي أوقفتها إسرائيل مؤخرًا مع حماس في غزة وحزب الله في لبنان. هذه الممارسة، التي تُستخدم لإرباك الصواريخ والطائرات بدون طيار الواردة من العدو، أثرت أيضًا على آلاف الرحلات الجوية المدنية — ليس فقط تلك المغادرة والقادمة محليًا، ولكن أيضًا الرحلات التي تمر عبر المنطقة.
يمكن أن يكون لهذا النوع من الحرب الإلكترونية عواقب غير مقصودة تبدو سريالية أو مضحكة. على سبيل المثال، أبلغ سائق أوبر في بيروت مؤخرًا عن اكتشافه فجأة أنه موجود في قطاع غزة — على الأقل وفقًا لتطبيق الخرائط الإلكتروني الذي يستخدمه. كما من المعروف أن اضطرابات GPS أثرت على تطبيقات المواعدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث أظهرت للمستخدمين تطابقات محتملة في “دول العدو”.
أمريكا الشمالية لا تشهد حاليًا حروبًا ساخنة أو هجينة، لكن القارة ليست خالية تمامًا من التشويش على إشارات GPS — أو من خطر زيادة مثل هذه المشاكل.
يستخدم المجرمون تشويش إشارات GPS كوسيلة مساعدة في تهريب المخدرات وسرقة المركبات، بالإضافة إلى أنشطة إجرامية أخرى. في السنوات الأخيرة، تسببت أحداث تشويش وتزوير متفرقة لإشارات GPS في تعطيل عمل المطارات الأمريكية. كما أن المزيد من المواطنين يحصلون على أجهزة تشويش مع انتشار مخاوف الخصوصية ونظريات المؤامرة.
الولايات المتحدة تفتقر حاليًا إلى نظام وطني آلي للكشف في الوقت الفعلي عن التشويش على إشارات GPS، مما يترك العمليات الحكومية والطوارئ والتجارية عرضة لمثل هذا التشويش.
إحدى الحلول الممكنة هي تحويل أكثر من 300 مليون هاتف ذكي مستخدم في جميع أنحاء أمريكا — والتي تُعتبر “واحدة من أقوى شبكات الاستشعار الموزعة على الكوكب” — إلى أداة كشف جماعي عن التشويش على إشارات GPS/GNSS.
أصبح التشويش على إشارات GPS وتزويرها مصدر إزعاج كبير لصناعة الطيران المدني والصناعات الأخرى، لدرجة أن شركتين تكنولوجيتين طورتا حلاً بديلاً: تقنية جديدة أُطلق عليها اسم “الجيروسكوب على شريحة إلكترونية”.
كانت الجيروسكوبات البصرية التقليدية بديلاً ضخمًا لملاحة الأقمار الصناعية — حتى عام 2018، عندما اكتشف علماء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (CalTech) طريقة لتقليص حجم الجيروسكوب ذي الحالة الصلبة ليصبح بحجم حبة أرز.
في الأشهر القليلة الماضية، قدمت شركة Anello Photonics (مقرها سانتا كلارا، كاليفورنيا) وشركة OSCP (مقرها مونتريال، كندا) بشكل منفصل أجهزة ملاحة بالقصور الذاتي لا تحتاج إلى إشارات الأقمار الصناعية للإبلاغ بدقة عن الموقع الجغرافي والاتجاه.
تقوم كلتا الشركتين بتسويق أجهزة صغيرة الحجم ومريحة، والتي لن تفيد فقط طائرات الركاب، ولكن أيضًا الطائرات بدون طيار، والجرارات ذاتية القيادة، والمركبات غير المأهولة تحت الماء في المحيط.
من المؤكد أن هذه التقنية الجديدة للملاحة دون الاعتماد على الأقمار الصناعية ستساعد في جعل الطيران المدني أكثر أمانًا إلى حد ما — بينما قد تجعل أيضًا الطائرات العسكرية بدون طيار أكثر فتكًا.