للعلم بنيان شيدته جهود العلماء على مدار العديد من السنين المغمورة بعطر عرق هؤلاء العلماء والمضاءة بنور فكرهم المستنير. وقف العلماء وسط الرياح العاتية والأمطار الشديدة وتحت لهيب أشعة الشمس الحارقة، لدرجة أن منهم من فقد حياته لا لشئ غير الوصول الى بساتين العلم ونقل ثماره عبر الأجيال المتتالية. وقف العلماء فى الماضى وقفة رجل واحد دون ترتيب مسبق ودون السعى الى مصلحة خاصة لأن أهدافهم كانت واحده، أكانوا ملائكة؟ نعم جمعتهم ملائكية الهدف النبيل الساعى لتثبيت كلمة الله فى خلقه بل ورفع ظلمة البصر وعتمة القلوب عن البشرية جمعاء.
جزيئات البنيان العلمى
صرح كبير عانق عنان السماء واخترق باطن الأرض، صرح لم يستطع انكار رؤيته أى أحد على مر العصور فتحدث عنه الجاهل قبل العالم، انه صرح البنيان العلمى. صرح تكونت كل لبناته بل وكل جزيئاته من أجيال متتالية من علماء صدقوا الله ماعاهدوا فهم كالأنبياء الذين كان فى وجودهم كامل الخير لكل من قدرت له الحياة. فى الماضى، كانت أعمدة البنيان العلمى قليلة العدد قوية التأثير فى حين كانت الجزيئات الصغيرة كثيرة جدا لدرجة أنها كادت لاتحصى ولا تعد. فكان الكل شغوفا بالعلم، الفقير قبل الغنى يضحى بكل ماهو غال ونفيث من أجل أن يتعلم أو يعلم أولاده. فى الماضى صدقوا النية فحالفهم النجاح على الرغم من قلة الامكانيات ولكن كانت عزيمتهم أكبر وأقوى ممن تالهم فى عصور غمرتها التكنولوجيا. فى الماضى كانت مارى كورى وكان أينشتين ونيوتن والعقاد والشافعى وابن حنبل وغيرهم الكثير والكثير ممن ألتف حولهم الكثير من طلاب العلم الحقيقيين.
طبيعة البنيان العلمى
لكل شئ طبيعيته التى تميزه عن بقية الأشياء، فللكائن الحى طبيعة معينة وديناميكية محدده تختلف عن طبيعة التكوينات الغير الحية. المكونات الغير الحية التى تدرجت طبيعتها بين الصلادة والهشاشة، ومابين الصلادة والهشاشة فرق كبير وعظيم لايجهله الجاهلون. والفرق سالف الذكر اعتمد اعتمادا كليا على المسافات البينية بين جزيئات البنيان الغير حية. والبنيان العلمى لايختلف فى طبيعته كثيرا عن طبيعة هذه الكائنات، فتارة مايكون البنيان قويا شديد الصلادة وتارة أخرى يبتلى بالضعف والوهن والهشاشة. طبيعية البنيان العلمى لاترتبط بالعلم ولكن بطبيعة حامليه أو ممارسيه، ومن ثم تزداد قوة البنيان العلمى بزيادة قوة مكتشفى العلم وطبيعتهم المعتدلة كما تزداد ضعفا وهوانا بكثرة من يدعون أنهم من مكتشفى العلم، هؤلاء هم السوس الذى ينخر فى عظام البنيان العلمى. هؤلاء هم رويبضة العلم الذين يحملون مسميات ضخمة ورنانة، مسميات خاوية يملؤها فراغ الجهل القبلى المقيت.
أليات توصيف البنيان العلمى
أليات توصيف البنيان العلمى لابد أن تكون قائمة على نواميس علمية محددة دون اللجوء الى طواحين الهواء وجلب من يدعون بأهل الثقة لأنه لا ثقة فى العلم الا بالعلم، فالحجة بالحجة ولامجال للكلام المرسل. أليات التوصيف لن تقوم الا على مجموعة من القواعد التى قد يشذ بعضها عن مجملها لتكون النتيجة أو حكم التوصيف انعكاسا حقيقيا لطبيعة البنيان العلمى والذى يتجه نحو مجمل وشمولية القواعد متجاهلين الشذوذ الذى قد يهلك كامل البنيان. فمورفولوجيا المواد تكتشف بواسطة الميكروسكوب الماسح أو النافذ والتى توضح لنا طبيعة بنيان المواد من حيث حجم وشكل حبيباتها وما قد يتخللها من فجوات وثقوب أو مسام. وبالقياس نذهب لتوصيف البنيان العلمى اما بميكروسكوب العين الفاحصة الماسحة لكل جزيئات البنيان العلمى أو بميكرسكوب العقل النافذ بين هذه جزيئات، هذه الأليات لايملكها الى كل صاحب بصر وبصيرة لا كل متملق تغلب عليه هواه وطغت مصالحه الشخصية على المصلحة العامة.
البنيان العلمى وتدرج العصور
فى العصور الأولى وفى أزمنة السعى الحثيث وراء العلم والعمل على دفع عجلته، كانت أعمدة العلم راسخة فى باطن الأرض على أسس وقواعد حقيقة بل وكانت منارات هذه الأعمدة شاهقة بلغت عنان السماء اعتمادا على أن العالم كان فى طلب مستمر للعلم من المهد الى اللحد. كان طلب العلم وتدريسه ليس فى تخصص واحد بل كل التخصصات، فهم، وهنا أقصد شيوخ العلماء، تعلموا شئ عن كل شئ ، وكل شئ عن شئ معين. فان كنت كيميائيا فلابد لك من دراسة علم الكيمياء بعمق شديد بل ويمتد الأمر الى العلوم المتعلقة بعلم الكيمياء كالفيزياء وعلوم الأحياء….ألخ. كان العالم عالما شاملا يستفتى فيفتى عن علم، وان أفتى بأنه لايعلم فقد أفتى، أما الأن فأصبح الخوض فى بواطن العلوم شئ مباح ومتاح لكل جاهل قبل أى عالم. استهتزأنا بالعلم فاستهتزأ العلم بنا، وتشدقنا بكلمات فضفاضة كالعلم التطبيقى والتكنولوجى ….الخ غير مبالين بمدى أهمية العلوم الأساسية التى هى أساس كل هذا وذاك.
فى العصور القديمة اشتد البينان العلمى لغياب الفقاعات الهوئية بين جزيئاته التى اقتربت من بعضها البعض فازدات صلابة الهيكل البنائى للصرح العلمى، أما الأن فلقد تخللت هذه الفقاعات الهوائية هذا البنيان فازداد هشاشة وضعفا، فقاعات هوائية تمثلت فى مدعى العلم ومن تخيلوا أنهم علماء وهم على الجانب الأخر من العلم والعلماء سواء من الناحية العملية أو الناحية الادارية. وهم غمر النفوس المريضة التى اعتقدت أن ادارة العلم ليست بعلم وفن دقيق للغايه، اعتقدوا أن الادارة ليست بالخبرة والدراسة. وهنا نجد الخبرة الغير قائمة على دراسة تثقلها وتعززها تجعلها مهتزة، كما نجد الدراسة الغير معبأة بالخبرة سوف تؤدى الى الرعونة فى اتخاذ القرار. علاوة على أن الخبرة والدراسة متلازمتان لايمكن الاستغناء عن احداهما. وفى حقيقة الأمر، نجد الدراسة الادارية الصحيحة مع القليل من الخبرة يعظم من قيمة وتأثير هذه الخبرة، أما الخبرة الطويلة الغير مستندة على دراسة ادارية صحيحة قد تؤدى بنا الى المهلكة بل ودمار البنيان العلمى بالكامل. ويزداد الأمر سوء فى حالة غياب الدراسة والخبرة، أمر قد ينتهى بنا الى مستنقع لانستطيع الخروج منه وهذا ما تجده مع رويبضة العلم الذين اغتالوا براعم العلم واجتثوا أشجاره المثمرة وغرثوا مكانها أشواك الجهل بجهلهم وبجهل من أتوا به من فقاعات هوائية مدمرة. رويبضة العلم زادوا البنيان العلمى هشاشة بزيادة الفقاعات الهوائية فى هيكله حتى فقد تماسكه. رويبضة العلم هم من ملكوا بغير حق وغرثوا وبغير حق، وزادوا البنيان هشاشة وضعفا وهونا حتى تعاظمت الكوارث وتعقدت المسائل وانعدمت الحلول الحقيقة. ولكن هؤلاء الرويبضة نسوا وتناسوا أن العلم نور لن يستطيع هؤلاء ومن على شاكلتهم حجب هذا النور الالهى بأفواههم التى لاتنضح الا سم زاد الصحراء تصحرا والجهل جهلا فوق جهله.