على الرغم من أن القنبلة الذرية قد استغرقت أكثر من 10 سنوات للانتقال من المفهوم العلمي للواقع، إلّا أن سلاح الدمار الشامل القادم قد يستغرق أقل من ذلك بكثير.
في يوم الخميس الموافق لـ19 تشرين الثاني، اجتمع عميل خاص من مكتب التحقيقات الفيدرالي مع باحثين في واشنطن العاصمة، للتحدث إلى الهيئة العلمية حول مخاطر تقنية جينية جديدة قوية، تسمى “محرك الجين” (gene drive)، تسمح للعلماء، بشكل أساسي، بالتدخل بعملية التطور، ونشر جين جديد عبر مجموعة واسعة من السكان بسرعة لا تصدق، وعلى الرغم من أن العلماء كانوا قد طوروا هذا الجين عن حسن نية، بغية القضاء على البعوض لإنهاء الملاريا، إلّا أنه ولسوء الحظ يمكن أن يتم استخدمه لغايات شريرة أيضاً، فهو رخيص وسهل الاستخدام بما يكفي ليتمكن الإرهابيون المتخصصون في البيولوجيا من أن يضعوا أيديهم عليه.
مستوحاة من الطبيعة
توجد محركات الجينات في الطبيعة منذ فترة طويلة، فعادة، يكون لدى الكائن الحي فرصة 50% لأن يرث جينات معينة من أحد والديه، ولكن يمكن لبعض الجينات أن تزيد فرصها في أن يتم توريثها، والطريقة التي تمكنها من فعل ذلك تتمثل باستعمال آلية تسمح لها بعمل نسخ متعددة من أنفسها ضمن الجينوم الأصل.
على مدى عقود، لم يكن أحد يعلم الكيفية التي تتكرر فيها هذه الظاهرة الطبيعية، ولكن في عام 2003، اقترح (أوستن بيرت)، وهو أستاذ في علم الوراثة التطورية في إمبريال كوليدج في لندن، طريقة للقيام بذلك، ولكن فكرته تطلبت وجود أداة وراثية تستهدف بدقة أحد الجينات وتستبدله بجين آخر، مع آلية النسخ الخاصة به، ولكن في ذلك الوقت، لم تكن تلك الآلية متاحة بالدقة المطلوبة.
ولكن في عام 2012 استطاع باحثون أمريكيون تطوير هذه الأداة العالية الدقة لتعديل الجينات، وقد سميت بأداة (CRISPR-Cas9)، حيث ساهمت هذه الأداة بفتح مجالات جديدة كاملة من الهندسة الوراثية، وبحلول نهاية عام 2014، استخدمها الباحثون في جامعة هارفارد لتطوير محرك جيني في الخميرة لنقل مورثات لها بنسبة 99% بدلاً من 50%، وفي آذار، قامت مجموعة باحثين في جامعة كاليفورنيا، في سان دييغو بإظهار أن محركات الجينات يمكن أن تنجح برفع مقدار احتمالية توريث الجينات في ذبابة الفاكهة التي تعد أكثر تعقيداً من الخميرة بكثير لنسبة 97%.
مخاطر سوء الاستخدام
يتضمن التعديل الوراثي استبدال جين بآخر، مثل إعطاء البعوض جيناً مقاوماً لطفيلي الملاريا، ولكن عادة لا تستطيع البعوضة الحاملة لهذا الجين توريثه دائماً إلى الجيل التالي، إلّا أنه وباستخدام محرك جينات مبرمج بالشكل الصحيح، يمكن من الناحية النظرية نشر نسخة مقاومة للطفيلي من الجينات لنسل البعوض القادم.
ولكن محركات الجينات يمكن أيضاً أن تستخدم لبناء سلاح بيولوجي مرعب، فمن الناحية النظرية، ليس على الإرهابي أن يقوم بإنشاء كميات كبيرة من الفيروس القاتل لإطلاقه على العالم، فبدلاً من ذلك، يمكنه تعديل حفنة من البعوض لتصبح حاملة لجين يعمل على تصنيع السموم، وتزويدها بالطاقة من خلال محرك الجينات، وبسرعة سيصبح جميع البعوض في العالم قادراً على تصنيع هذا السم، وستكون لدغة البعوض قاتلة.
لهذا السبب، يجري حالياً إجراء المحادثات لتنظيم هذه التقنية، وقد كان اجتماع يوم الخميس هو الأخير بين ستة محادثات تم تنظيمها من قبل الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة لمناقشة الكيفية التي يمكن من خلالها تنظم محرك الجينات، والهدف من ذلك هو تقديم تقرير في الربيع المقبل، ومن جهة ثانية، فقد اطلع خبراء أمنيون آخرون من مكتب الأسلحة البيولوجية التابع للامم المتحدة على المخاطر المحتملة للأسلحة القائمة على محركات الجينات، ومن المرجح أن يبدأ المجلس الأمريكي الاستشاري العلمي الوطني للأمن الحيوي بالبحث قفها أيضاً، وهذا قد يؤدي إلى فرض حظر على التمويل الفيدرالي لأبحاث محركات الجينات، مثل الذي فرضته الحكومة الأميركية في العام الماضي على مجال أبحاث تعديل الفيروسات.
ومع ذلك، فتبعاً لـ(إميش أدلجا)، خبير الأمن البيولوجي في جامعة بيتسبرغ، فإذا كان هناك أحد ما أو جماعة إرهابية تعمل ضمن هذا المجال بشكل سري، فإن هذه التنظيمات والحظورات لن تحدث أي فرق.
ليس بهذه السرعة
تبعاً لـ(أوستن بيرت)، الذي اقترح الطريقة النظرية لصنع محركات الجينات في عام 2003، فإن تهديد محركات الجينات ليس كبيراً للغاية التي نتصورها، ولن يحدث في القريب العاجل كما قد يبدو الأمر.
أولاً، يمكن لمحركات الجينات أن تعمل فقط في الفصائل التي تتكاثر جنسياً، لذلك فعلى الرغم من أن العلماء قد أصبحوا جيدين جداً في هندسة الميكروبات الوراثية، والتي يمكن استخدامها لتصنيع المركبات المفيدة مثل الأدوية الاصطناعية، أو لتصنيع الأمراض السيئة، إلّا أن الغالبية العظمى من الميكروبات (والنباتات، التي تعتبر العمود الفقري في مجال التكنولوجيا الحيوية) تتكاثر لاجنسياً، لذلك لا يمكن استخدام المحرك الجيني لتحويل الميكروبات إلى جراثيم تنتشر بسرعة.
ثانياً، تبين بأن محركات الجينات الحالية تعمل فقط على مدى جيل واحد حتى الآن، ولكن على مدى عدة أجيال، فإن الطفرات الطبيعية قد تدمر آلية النسخ، مما يجعل الجينات الجديدة تتلاشى.
ثالثا، لا يمتلك العلماء حتى الآن الفهم الكافي على المستوى التفصيلي المطلوب للقيام بهندسة محركات جينية ناجحة سوى لعدد قليل من الكائنات الحية، فقد قضى علماء الأحياء عقوداً طويلة حتى استطاعوا الوصول إلى لمعرفة ما يكفي من المعلومات عن ذبابة الفاكهة، لذلك لن يكون الإرهابيين المتخصصين في البيولوجيا قادرين على تطبيق الفكرة على البعوض أو أي مخلوق آخر يريدونه.
ولكن مع ذلك، فلا يزال العلماء يرغبون بأن يتم استخدام محركات الجينات في مجالات تحسين البشرية، وتحقيقاً لهذه الغاية، وضع الباحثون في جامعة هارفارد مؤخراً ضمانتين ممكن تحقيقهما، ففي دراسة نشرت يوم 16 تشرين الثاني، أظهر الباحثون استخدام “محركات التقسيم” في الخميرة، حيث يتم إدراج بعض أجزاء محرك الجينات في الحمض النووي للخميرة، في حين يتم حمل الأجزاء الأخرى ضمن مسارات منفصلة في خلايا الخميرة، وبهذه الطريقة، إذا ما حدث خطأ ما في الخميرة وخرجت عن المسار المخطط لها، لن يتم توريث جميع المكونات معاً، مما سيتيح فرصة إبطاء المحرك الجيني قليلاً.
إلى جانب ذلك، قام الباحثون بتطوير محرك جيني ثانٍ يدعى “الممحاة الجزيئية”، ووظيفته تتمحور بالتراجع عن التغيرات الجينية في 99% من الجينات المتوارثة في الجيل التالي والتي يكون المحرك الجيني الأول قد تسبب بها، لذلك فإن أحد طرق تنظيم المحركات الجينية يمكن أن تكون من خلال السماح باستخدامها بشرط أن تكون مرفقة بزر “التراجع”.
أخيراً، فإن العلماء يمتلكون سبباً وجيهاً لتوخي الحذر، فهم لا يريدون استقطاب رد فعل شعبي مثل ذاك الذي أحاط ببحوث الكائنات المعدلة وراثياً، فتبعاً لـ(كيفن ايسفيلت) وهو باحث جامعة هارفارد الذي قام بتطوير أول محرك جيني اصطناعي في الخميرة، إذا ما قام أحد ما بالعبث بهذه المحركات الجينية، فسيسبب ذلك ضجة إعلامية ضخمة لن تكون محببة جداً، حيث ستنتشر رسالة مفادها بأنه لا يمكن الوثوق بالعلماء للتعامل مع هذه التكنولوجيا، وسيتم إعاقة عمل الباحثين لسنوات وسنوات.