ليس فقط الأمهات .. 13 % من الآباء الجدد يصابون به.. والدعم المجتمعي أحد سبل التغلب عليه
“بالرغم من استقرار معيشتها، انتابها اكتئاب شديد عقب ولادتها طفلها الأخير”، هذا ما انتهت إليه تحقيقات النيابة العامة المصرية الشهر الماضي في قضية مقتل ثلاث أطفال أشقاء على يد والدتهم، التي حاولت بعدها الانتحار لكنها نجت وأدلت بتفاصيل ارتكاب الواقعة.
رغم قسوة القصة إلا أنها ربما تكون سببا قويا في الحاجة إلى مزيد من التوعية بمرض “اكتئاب ما بعد الولادة”، حيث تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية، في 2018 إلى أن الاضطرابات النفسية التي تعقب الولادة، بما في ذلك الاكتئاب، تلم بنحو 13% من النساء في غضون السنة التي تعقب الوضع، حيث تعاني نحو 10 % من النساء حول العالم من الاكتئاب أثناء فترة الحمل، لتصل النسبة إلى 13 % بعد الولادة، وفي الدول النامية ترتفع النسب إلى 16 % خلال فترة الحمل وتصل إلى 20 % بعد الولادة.
خوف وحزن
“عقب ولادة ابنتي الأولى )ملك( كنت أشعر بخوف شديد وقلق وحزن غير مبرر”، هكذا وصفت سلمى معوض مشاعرها من خوف وقلق وحزن، والتي غطت على فرحتها بإنجاب أول مولود لها، على الرغم من أنه لم يكن هناك أي علامات صحية مثلا على الوليدة تجبر الأم على الخوف لكن الخوف كان من حدوث “مكروه”، ما لأحد أفراد العائلة الصغيرة، “كنت حاسة إن فيه حاجة وحشة تحصل لبنتي أو وزوجي”.
ما شعرت به سلمى تُعرّفه الكلية الملكية للأطباء النفسيين بأنه شكل من أشكال اكتئاب ما بعد الولادة، فالأم المصابة بالاكتئاب الشديد “تكون مختلفة جدا، إذ تحيط بها حالة حزن عميق لدرجة اليأس وتكون قليلة الحيوية والمبادرة على الرغم من أنها قد تكون مضطربة ومستاءة”.
حالة نادرة
ورغم أن الكلية الملكية للأطباء النفسيين في تعريفها للأمراض النفسية المصاحبة لفترة ما بعد الولادة ترى أنه “من النادر أن تقتل الأم طفلها ونفسها معا”، فربما تكون حالة الأم المصرية التي قتلت بالفعل أطفالها الثلاثة وحاولت بعدها الانتحار، واحدة من ضمن هذه الحالات النادرة.
أسباب اكتئاب ما بعد الولادة
مشاعر الخوف والقلق التي شعرت بها سلمى فسرتها الكلية الملكية للأطباء النفسيين بأنها اكتئاب ما بعد الولادة، وبحسب دراسة نشرتها مجلة “جاما نيتورك” في ديسمبر 2020، أجراها باحثون من معهد يونيس كينيدي شرايفر الوطني لصحة الطفل والتنمية البشرية، فإن “اكتئاب النفاس يمتد لفترة قد تصل إلى 3 سنوات من الوضع”.
وبحسب الدراسة فإن ما يقرب من ربع النساء عانين من أعراض اكتئاب مرتفعة في مرحلة ما خلال السنوات الثلاث التي أعقبت ولادة أطفالهن، حيث عانت بعض النساء من أعراض الاكتئاب المتزايدة على مدى 3 سنوات، بينما انخفضت أعراض الاكتئاب لدى أخريات بمرور الوقت.
وربطت الدراسة بين عرض سكري الحمل بأعراض الاكتئاب المستمرة لمدة تصل إلى 3 سنوات بعد الولادة، حيث لاحظ المؤلفون أن الأطباء يجب أن يدركوا أن أعراض اكتئاب ما بعد الولادة تتبع مسارات مختلفة ويمكن أن تستمر لمدة 3 سنوات على الأقل.
وأجريت الدراسة على 4866 أمًا للأطفال المولودين من 2008 إلى 2010 في ولاية نيويورك، قدمت النساء تقييمات عراض الاكتئاب في 4 ، 12 ، 24 ، و 36 شهرا بعد الولادة.
لذلك أوصت “الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال” بأن يفحص أطباء الأطفال الأمهات بحثا عن اكتئاب ما بعد الولادة في زيارات رعاية الطفل حتى يبلغ الطفل 6 أشهر من العمر، إلا أن الدراسة وجدت أن أعراض الاكتئاب استمرت لدى بعض النساء لمدة تصل إلى 3 سنوات بعد الولادة.
مع تزايد مشاعر الخوف والقلق والاضطراب بالنسبة للسيدة المصرية سلمى مع رعاية طفلتها الأولى لجأت لطبيبها الخاص بأمراض النساء والتوليد لتخبره بكل هواجسها، هنا شرح لها الطبيب أن ما تشعر به هو “اكتئاب ما بعد الولادة”، وكانت هذه هي “المرة الأولى” التي كانت تسمع فيها عن المرض، بحسب قولها
ما حاول الطبيب شرحه لسلمى توصلت إليه دراسة حديثة نشرت في أبريل 2022، أجريت في مستشفى النساء بجامعة نورث كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تمت الدراسة على 1551 سيدة، حيث وجدت الدراسة أن الحمل يغير جوهريا في أنظمة فسيولوجية متعددة في الجسم، وقد يساهم الفشل في العودة إلى مستويات ما قبل الحمل خلال فترة ما بعد الولادة في ظهور أعراض اكتئاب ما بعد الولادة.
وتشير نتائج الدراسة إلى تنشيط الخلايا البائية والتي تلعب دورًا مهمًا في جهاز المناعة، حيث تنشط الخلايا البائية عندما يتعرف مستقبلها على مستضد وترتبط به، ثم تقوم الخلايا البائية المنشطة بإنتاج الأجسام المضادة، جنبًا إلى جنب مع إفراز العوامل المؤيدة والمضادة للالتهابات أثناء الحمل، هنا يتعين على الجهاز المناعي للأم أن يوازن بين تحمل الجنين والحفاظ على اليقظة ضد مسببات الأمراض، وتكون تركيزات الخلايا البائية أقل بشكل ملحوظ خلال الثلث الثالث من الحمل وبعد الولادة مباشرة مقارنة بالنساء غير الحوامل ، ولكن المستويات تعود عادةً إلى تلك التي تظهر في النساء غير الحوامل بحلول ستة أسابيع بعد الولادة، وهذا الخلل هو ما يسبب ما يعرف باكتئاب ما بعد الولادة.
آباء مكتئبون أيضا
وعلى الرغم من أن فترة الحمل والولادة تخوضها السيدات بمفردهن “جسمانيا” على الأقل، لكن ما قد تعانيه بعضهن من اكتئاب ما بعد الولادة ، قد يشعر به أيضا ويصاب به الآباء الجدد، حيث توصلت دراسة أجراها باحثون من جامعة “أنجليا روسكين” في المملكة المتحدة نشرت في مايو 2019، أن “اكتئاب ما بعد الولادة يصيب ما بين 6 إلى 13% من الآباء الجدد”.
وعلى الرغم من غرابة ما توصلت له الدراسة إلا أنها ميزت بين حدة علامات الاكتئاب ما بعد الولادة عند النساء بمعدل أكثر من الضعف تقريبًا مقارنةً به عند الرجال.
ويقول فيرين سوامي، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة “أنجليا روسكين” بالمملكة المتحدة، والباحث الرئيسي في الدراسة، إنه بدأ مع فريقه البحثي دراسة “اكتئاب ما بعد الولادة” بسبب تجربة ذاتية، إذ جرى تشخيصه (هو شخصيًّا) بهذا الاضطراب النفسي بعد ولادة ابنه الأول.
وأخضع الباحثون 406 من المتطوعين البريطانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و70 عامًا للدراسة، وطلبوا من كل واحد منهم قراءة مقالين مصغرين يصفان مواقف متطابقة تقريبًا يعاني فيها الشخص من اكتئاب ما بعد الولادة، كان أحد المقالين يتحدث عن رجل، أما الثاني فيتحدث عن سيدة.
بعد الانتهاء من قراءة المقالين، طلب الباحثون من المتطوعين توضيح ما إذ كان بطل أو بطلة كل مقال يعانون من اضطرابات نفسية، وأجاب حوالي 97%- بنعم عندما كانت الشخصية التي تتحدث عنها المقالة القصيرة امرأة، في حين أجاب 79.5% بنعم عندما كانت الحالة ذكرًا.
وفي حالة الأمهات، وصف 90.1% حالة المرضى بشكل صحيح، وأنهن يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، في حين أن 46.4% فقط أدركوا مرور الآباء باكتئاب ما بعد الولادة، عندما كانت المقالات تتحدث عن حالات الآباء.
دعم مجتمعي
بعد عودة سلمى من زيارة طبيبها الذي أخبرها بمعاناتها من اكتئاب ما بعد الولادة أخبرت والدتها بما قاله الطبيب، فما كان من الجدة إلا تقديم الدعم النفسي الكامل لابنتها “ماما وزوجي وأختي حاولوا طمأنتي والوقوف بجانبي كثيرا للتغلب على مشاعر الخوف والقلق”، فكانت الجدة تهيئ لابنتها وقتا أكثر هدوء وتتولى رعاية الرضيعة بشكل كبير وتترك لسلمي مزيدا من الوقت للراحة حتى تخفف عنها العبء النفسي والجسماني.
ما قدمته عائلة سلمى لها من دعم نفسي توصي به دراسة جديدة نشرتها مجلة نيتشر العلمية في فبراير 2022، ترى أن الدعم الاجتماعي الملائم يمكن أن يحمي من اكتئاب ما بعد الولادة من خلال دراسة أثر العاطفة على وظائف قشرة المخيخ للدماغ والتي تلعب دورا كبيرا في تحسين الحالة المزاجية للنساء خصوصا المصابون باكتئاب ما بعد الولادة.