إلى أين سيصل ذكاء الإنسان؟
1-مستقبل الإنسان :
لم يكن يظن العالم جيمز فلين James R. Flynn ، مكتشف الظاهرة -التي أُطلق اسمه عليها بعد ذلك – أنه سيعقد لنا تخلينا لمستقبل الإنسان. إذ إن كل التقدم الذي حققته البشرية هو ناتج عن ذكاءها، ذلك النشاط الذي تقوم به أساسا قشرة المخ . اكتشف لنا “فلين ” أن متوسط ذكاء البشرية إجمالاً، يزداد بمعدل 3 نقاط كل عشر سنوات. هكذا أثار قريحة الباحثين في علوم الأعصاب و علوم الإدراك محاولين التنبؤ بالمستقبل متسائلين عن سبب الزيادة في معدلات الذكاء و هل يمكن أن يواكب التطور في الذكاء الاصطناعي .
ُيرجع البعض السبب لانتشار التعليم و تحسن مستويات التغذية الصحية للبشر في القرن العشرين. غير أن العلماء لا تستهويهم هذه الإجابات المعلبة ، و يفضلون البحث عن أسباب أعمق و أقل عمومية ً.
وربما تسائلوا كذلك عن الاختلافات الشخصية بين البشر في مستويات الذكاء .
ماهو الذكاء :
محاولة الإجابة عن هذا السؤال تعيدنا لأوائل القرن العشرين ، عندما سعي “ألفرد بينيه” Alfred Binet (1857–1914) و هنري سيمون Henri Simon (1872–1961) لايجاد اختبار موحد لقياس الذكاء ، جاهديَن لتنصيف الطلبة في مراحل التعليم الأولى و التي أصبحت إلزامية في فرنسا وقتذاك. عُرف بعدها الذكاء ” أنه “القدرة على التفكير، والتعلم من التجارب، وحل المشكلات والتكيف مع المواقف الجديدة. ولكن كارل بيريتر Carl Bereiter ( 1930) يعرفه بطريقة أسهل قائلا :هو الشيء الذي تستخدمه عندما لا تعرف كيف تصنع في المواقف المختلفة.
الذكاء العام ” g” :
اقترح جون كارول John Carroll (June 5, 1916 – July 1, 2003) فرضية الطبقات الثلات للذكاء و التي يكون في قمتها الذكاء العام ” g” حيث القدرة على التفكير المنطقي و الاستقرائي و الإبصار و فهم اللغة (درة تاج الإدراك الانساني وفقا لستيفن بينكرSteven Pinker ). في الترتيب الأدنى تأتي الطبقة الثانية ، متميزة بعوامل القدرة الواسعة: الذكاء السائل (القدرة على التفاعل مع المواقف الجديدة ) ، الذكاء المتبلور ( القدرة على استدعاء المعلومات القديمة ) ، الذاكرة العامة ، الإدراك البصري ، الإدراك السمعي ، سرعة الاسترجاع أو الإدراك. بينما أخيرًا ، تعتمد الطبقة الأولى على قدرات محددة ، مثل الاستقراء والمعرفة المعجمية ، الذاكرة الترابطية ، العلاقات المكانية ، تمييز الصوت العام ، و الطلاقة الفكرية.
يعتبر مقياس ويكسلر لذكاء البالغين WAIS -Wechsler Adult Intelligence Scale من أفضل مقاييس اختبار الذكاء المعتمدة لارتفاع صلتها و موثوقيتها.
الذكاء و حجم المخ :
إذاً، فلماذا يتمتع الإنسان بهذا الذكاء دون غير من المخلوقات ؟
يرجع ذلك لحجم المخ عند الإنسان و خصوصا قشرة المخ ، حيث هما الأكبر في جميع المخلوقات لو أخذنا في الاعتبار حجم الجسم. و ليس من المستغرب أن يرتبط معدل ذكاء الفرد مع حجم المخ لديه ، حيث تؤكد الدراسة الشهيرة ” اصحاب المخ الكبير أذكى ” و التي قام بها مايكل ماك دانيال Michael A. McDaniel أن حجم المخ و الذكاء يرتبطان بمعدل ارتباط (0.34) و (0.4) عند الذكور و الإناث تباعاً. ويظهر هذا الارتباط جلياً في المناطق الوظيفية الأكثر صلة بالذكاء كجبهة المخ و الفصين الصدغي و الجداري ، و حصين المخ و المخيخ. و قد انهت هذه الدراسة سجالا دام مئة و تسع و ستون عاما بين العلماء حيث أصبح واضحاً الارتباط بين حجم المخ و الذكاء.
ربما “للوصلات العصبية” الدور الأهم :
ظل سائداً ذلك الاعتقاد بين حجم المخ -أو بالأخص المناطق الوظيفية – و الذكاء كعامل أوحد في تحديد قدرات الانسان العقلية . ولكن حدثت إنتقالة معرفية مؤكدة أهمية ” الاتصال ” بين هذه المناطق و ليس حجمها فحسب .
حيث طرح كل من ريكس يانج Rex Jung و ريتشارد هاير Richard Haier فرضية التكامل الجبهي الجداري
Parieto-Frontal Integration Theory (P-FIT) ، مُوضِحَين الطريقة التي يعالج بها المخ المعلومات و التي تتكون من أربع مراحل:
1-تعالج المناطق الخلفية و الصدغية في المخ المعلومات الحسية في مرحلة المعالجة الأولى.
2- في مرحلة المعالجة الثانية : يحدث التكامل والتجريد لمعلومات الحسية بواسطة الفص الجداري.
3-تتفاعل المناطق الجدارية مع الفصوص الأمامية في مرحلة المعالجة الثالثة مكونة أساس حل المشكلات والتقييم واختبار فرضيات الحل .
4- و أخيرا تقوم القشرة الحزامية الأمامية باختيار الاستجابة وتثبيط جميع البدائل ، بمجرد تحديد الحل الأفضل في المرحلة السابقة.
يتم هذا الاتصال بين المناطق المختلفة عن طريق المادة البيضاء ،بينما المعالجة الأساسية الأولية للمعلومات تتم في المادة الرمادية وهما المكوننين الرئيسين للخلية العصبية .لا يفوتنا هنا أن نذكر أن كثافة المادة البيضاء يتم تحديدها وراثياً .
التوصيلات العصبية هي أساس اختلاف الذكاء البشري:
كما ذكرنا سالفا، تدعم المادة الرمادية قدرة معالجة المعلومات وتعزز المادة البيضاء كفاءة تدفق المعلومات عبر االمخ. و قد أكدت الدراسات تلك الفرضية بأن المستويات المرتفعة للذكاء تنطوي على قدرة نقل معلومات أكفأ في المخ . لذلك يمكن ارجاع الفروق الشخصية في الذكاء بين البشر الى هاتين القدرتين على معالجة و نقل المعلومات في المخ خاصة في الفصين الجبهي و الجداري . تم تأكيد هذه الفرضية من قبل واجر و سميث Wager and Smith.
لا حدود للتوصيلات العصبية :
فإذا كان حجم مخ الإنسان – مهما كبر – محدودا ، فإنه نظريا لا حدود لإمكانية مناطق المخ المختلفة ، خاصة الفصين الجبهي و الجداري ، على تكوين توصيلات أو شبكات عصبية .