بقلم أ. د. نصرالله محمد دراز
ان كان للحيرة عنوان، فلن تجد هذا العنوان الا فى واحة فليسوف الفلاسفة سقراط، الأب المؤسس للفلسفة الغربية. فبمجرد أن تطأ قدمك أرض الواحة السقراطية، فستجد نفسك قد تحليت بحلة الحيرة القائمة على السخرية السقراطية البعيدة كل البعد عن أى تهكم قد يداعب العقول الخفيفة الوزن. والغريب فى الأمر أننا لم نعثر فى واحة سقراط على أى مخطوطة تستحضر لنا الماضى البعيد عن تاريخ المفكر العظيم سقراط، لم يترك الرجل أى شئ مادى يدلنا على حياته ومنهجه الفلسفى غير ما تناقل لنا من رواده ومحبيه. لم يكن الرجل من هواة صياغه المخطوطات التى تحدثنا عنه وعن تشييده للفلسفة الغربية، وهنا تكمن أسطورية سقراط !!!. بث سقراط نواميس حكمته فى قلوب تلاميذه عبر آلية التلقين بعيدا عن القلم والقرطاس واعتمد فى ذلك على الحب المتبادل بينه وبينهم. كانت هذه القلوب اليانعة لهؤلاء التلاميذ بمثابة الأرض البكر الصالحة لزراعة بذور الحكمة الملقاه من يد هذا المزارع السقراطى الماهر.
مدى أسطورية سقراط
بلغت أسطورية سقراط مداها من خلال النهج التلقينى الممتدة جذوره فى قلوب جماهيره، والمتشعبة أغصانه فى دروب العقل المختلفة، بل والمتساقطة ثماره فى غالبية أيادى الطوائف المختلفة. لم يكن النهج التليقنى لسقراط نهجا تقليدا يعتمد فى غالبيته على المعلم بل كان نهجا غير نمطى اعتمد فى جوهره على المتعلم الذى يحفر بيده خطوط الفلسفة السقراطية على جدارن قلبه ومن ثم مرآة عقله تطبيقًا للمبدَأ السقراطى ” إعرف نفَسك بنفِسك”. فكان نقش حكمة سقراط فى نفوس تلاميذه كالنقش على الحجر، فى حين كان أى نقش آخر كالنقش على الماء. وكأن الرجل قد ترسخ فى عقيدته أن تاريخه وفلسفته بل وحكمته لا يحتاجون الى التوثيق بواسطة أى قلم أو أى قرطاس. قراءة سقراطية فريدة لحب تسامى لدرجة العشق من تلاميذ سقراط، تجلت في مخطوطات تلميذه أفلاطون وتلميذ تلميذه أرسطو ناهيك عن المؤرخ زينوفون والمسرحى أريستوفانيس. وفى هذا الصدد قد لاحظ ابن أبي أصيبعة أنّ سقراط لم يصنّف كتاباً، ولم يملى على أى أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس، وإنّما كان يلقّنه تلقيناً لا غير.
عبقرية سقراط
سعى سقراط سعيا فلسفيا مختلفا اعتمد على الجدلية المبنية على الاستنباط والتشكيك فى كل الأشياء بهدف الوصول الى الحقيقة التى لن نصل اليها الا بالعقل. لم يهتم سقراط بالطبيعة ولكنه اهتم بالعقل والانسان فى تطابق شديد الأهمية مع الذرة ونواتها، وكأن الطبيعة هى الذرة والانسان وعقله هما نواتها. عبقرية سقراط كمنت فى تغليب عالم الأفكار على عالم الحواس اعتمادا على أن احدى كفتى ميزان الحياة شملت الحواس فى حين كانت الافكار فى الكفة الأخرى. اخترق سقراط الجدار العازل الذى غلف العقول نافذا الى طريق الحوار المثمر المؤدى الى الحقيقة ومن ثم الخير من خلال المرحلة الأولى من السخرية السقراطية الكائنة على اشباع غريزة المتلقى أو المتعلم باشعاره بأنه هو صاحب المعرفة الكاملة عن موضوع الحوار وأن المعلم هو الأقل معرفة أو قد يكون المتعطش للمعرفة أو أن المعلم يجهل الحقيقة كحيلة سقراطية للاستلاء على قلب وعقل المتعلم. ثم تبدأ عبقرية سقراط فى الظهور رويدا رويدا ابتداءا من المرحلة الثانية من السخرية السقراطية التى يسبح فيها المتعلم فى بحور الارتباك والشك فيما كان يعتقد من ثوابت تخص موضوع الحوار، وهنا يكاد يعلو المعلم على المتعلم بعض الشئ فى تضافر وتشابك معتدل بين المعلم والمتعلم. ثم تكتمل الصورة النهائية للعبقرية السقراطية فى المرحلة الثالثة التى يعلو ويعلو فيها المعلم على المتعلم ( علو كعب المعلم)، آخذا بيد تلميذه الى الدرجة الأعلى وهى استنباط الحقيقة الكاملة. مراحل ثلاث تتلاحم أطرافها وتتآزر فيما بينها لتنتج لنا ثوب العبقرية السقراطية الذى يشعرنا بدفىء الحقيقة الكاملة. وهنا يطلق سقراط احدى طلقات حكمته بل أهم قواعد فلسفته بقوله ” إنيّ أعرف شيئاً واحداً، وهو أنيّ لا أعرف شيئاً”، من هذه القاعدة تنطلق الصواريخ السقراطية نحو المتلقى أو المتعلم كما أنها تحرك كل ما هو كامن فى الذات البشرية. عبقرية سقراطية قامت على التفكير الاستقرائى وانتهت بالتعريف الكلى للحقيقة.
سخرية سقراط
لم تكمن سخرية سقراط فى المعنى الحرفى للكلمة المؤدى الى الاستهزاء العلنى من أفكار وعقيدة المتعلم أو المتلقى، بل هى تعنى التظاهر ” التظَاهر بقبول رأي الطرف الآخر- المتعلم أو المتلقى – ثم جذبه إلى الحديث مع المعلم أو المحاور، ثم فحص فحوى هذا الرأي والوصول به إلى نتائج يقبلها العقل وسلم بها المتعلم أو المتلقى تسليما كاملا” . وعلى الرغم من أن سخرية سقراط لاتعنى اطلاقا ” التهكم ” الا أنه بشر غير معفى من الخطأ مؤدى ذلك أنه كان يسخر أحيانا من المتحّدثين مَعه. مؤدى ذلك أن السخرية السقراطية قد حملت فى رحمها الموقف الأخلاقى المطلق خصوصا عند ارتباك وتشكك المتعلم فيما كان يعتقد ووصوله الى مرحلة الشعور بالعجز والجهل أثناء مرحلة التفنيد والاستنباط لموضوع الحوار، والتى فيها سوف يتم تطهير نفس المتعلم من أوهام المعرفة. وفى حقيقة الأمر ان غاب الموقف الأخلاقى من قبل المعلم تجاه شعور المتعلم بالارتباك والعجز المعرفى، فسوف تلفظ نفس المتعلم أى نتيجة حتى لو كانت منطقية ومقبولة بالعقل والمنطق لأن النفس البشرية دائما عزيزة وغالية ويجب على المعلم أو المحاور أن يحنو عليها ليرتقى بها.