إن شـاعراً رائـعاً كـ بشار ابن برد لا يمثل في نظـر النقـاد قضة زمنية معينة ، أي أنه ليس مجرد شاعرٍ جاء فأبدع ثم رحل ..! وإنما يشكل بشـار تجاوزاً على مستوى الإبداع لكل معاصريه من الشعراء التقليديين ، ممن نهجوا منهج القصيـدة القديمة واحتذوهـا ، فبشـار ابن برد يعتبـر رأس التجديد في العصـر العبّـاسي .
فقد فتح بشار آفاق الإبداع والروعة والتجديد في الشعر أمام غيره من الشعراء ، كأبي تمام والبحتري
وإن تكلمنا عن بشار فلا يمكننا تجاوز شيء مهم فيه ، ربما كان محفزاً لأبداعه ، ألا وهو عماه ، فقد ولد بشار ولم يبصر من الحياة حوله شيئا ، كما قال الأصمعي : ( ولد بشار ولم ير الدنيا قط ، ولكنه كان يشبّه الأشياء بعضها ببعض على نحو لا يقدر عليه البصراء ) .
ويبدو أن تلك العاهة تركت في نفس بشار أثراً سيئاً ، أورثه سوء الظن بالناس ، فكان يحذرهم ويخافهم ، ولذلك كثرت أهاجيه ، وكان يقول : ( من أراد أن يُكرم في زمن اللئام ، فـ ليستعد للفقـر ، وإلا فـ ليهجُ ليخاف فـيعطى ..! ) .
فكان لعاهة العمى أثرها السيء عليه ، وشعور بالنقص يزداد حدة في داخله ، وأنه إنسان غير مكتمل جسمانيا ، لذلك حاول مراراً تلافي هذا الشعور عن طريق الفخر بسماته العقلية الأخرى كـ حدة الذكاء ، والبصيـرة الواعيـة ، والحس المرهـف ، وكان يقول :
عميتُ جنيـناً والذكـاءُ من العمــى *** فـجئتُ عجيــب الظـن للعــلمِ مـوئـلا
ويقول واصفاً نفسه :
أعمـى يـقود بصيـراً لا أبا لكمُ *** قـد ضــلّ مـن كـانت العميــان تهديــه
وكان بشار يجهد نفسه في وصف الأشـياء ، حيث أبدع في وصف أشياء لم يرها قط ، ولم يعرف لها شكلا ، كـ وصف حركة الأشجار ، وجريان السفن ، ويبدو أن هذا الأمر كان خشية من نقد النقاد ، أن يؤاخذوه على قصـوره في علاج المرئيـات ، فـ عالج هذا النقص من خلال تتبـعه لأشعار بقية الشعراء الذين وصفوا المرئيات ، ويقول واصفاً السفينة :
وعذراء تـجري بـلا لحـم و دم *** قـليـلة شـكوى الأيـن ملجـمة الدبــرِ
تـداعـبُ تـيّــار البحـور وربمـا *** رأيت نفـوس القــوم من جريــها تــجري
وللعمى أثر على نفسية الشاعر ومشاعره وأحاسيسه ، حيث زادت من رهافة مشاعره بشكل كبير ،حيث يروى أن بشار ابن برد قد بكي حين سمع قول الشمقمق : ( إن بشار ابن برد تيس أعمى في السفينة )
وفقدانه للبصر أرهف حواسه الأخرى ولاسيما السمع ولذلك نراه في أشعاره يضع الأذن موضع العين ، إذ يقول :
يـا قـوم أذنـي لبعـض الحـيّ عــاشــقةٌ *** والأذن تعشــقُ قبـل العيــن أحيـانا
قـالوا بمـا لا تـرى تهـذي فقلـت لـهم : **** الأذن كـالعيــن تـوفي القــلب مـا كـانا
وبذلك كان بشار شاعراً عميق الأحساس ، مرهف المشاعر والحواس ، يبدع في شعره إبداعاً تجاوز مقدرة غيره ، وكان اسمه بداية لعصـر جديد من الإبداع الشعريّ .
ولم يثـنه عماه عن مواصلة المسير نحو ما أراد ، بل كان دافعاً ليثبت للمبصرين قدرته ، ويرد عليهم بأن العمى ليس مقعداً عن الإنتاج والإبداع